الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

هائم


قصة قصيرة
لحامد المالكي
أشم رائحة عفن أينما أذهب، رائحة تشبه رائحة جدار قديم في بيت مهجور منذ قرون، أو، تشبه رائحة برميل النفايات الذي يقبع ممتلئا، في رأس القطاع[1]، وأيضا، وعلى نحو مستَفَز، أنظر الى الشباب الذين يهربون من ساحة التحرير، باتجاه ساحة الطيران وهم مذعورين، عيونهم جاحظة، وفمهم يرعد بالسب بألفاظ جارحة، كانوا يسبون مبنيا للمجهول، عبارات أستحى أن أذكرها، لكن لا بأس، فلأول مرة أشعر بأني لم أعد أستحي من القيام بأي شيء، أبسطه التلفظ بالشتائم تلك، شتائم مثل: "كس أمهاتكم على هالدكة[2]" وأخرى: "ولد الكلب مناويج[3]" وأخرى وأخرى وأخرى، لكن، على من تطلق هذه الشتائم؟ ، لا أدري، كنت الوحيد الذي يقترب من ساحة التحرير بلا خوف، رغم أن الرصاص الحي، كان يمرّ من جواري، أسمع فحيح أفعى الموت التي تتلوى داخله، متوثبة للدخول في جسدي، بعد أن يحفر نحاس الرصاصة، نفقا لها، يمكّنها من الولوغ  في دمي، عليّ أن أحترس؟ لم؟ خوفا من الموت مثلا؟ أنا ميت منذ أن وعيت على هذه الدنيا، كنت أسمع الكبار يقولون: "هذه الأيام برغم بؤسها، أفضل من أيام حكم صدام حسين" ينتابني الفضول، هل يمكن أن يعيش إنسان في وقت أتعس مما نعيشه اليوم؟ كم كان الجيل الذي قبلنا جبانا إذن؟
كانت أمي تحثني على العمل بطريقة لطيفة، كنت أعرف أن راتب الرعاية الاجتماعية لا يكفي –أبي كان يعمل كهربائيا، وبينما كان يمسك بيده سلك كهرباء ذي الضغط العائلي، مطمئنا كون الوطنية مقطوعة، أقصد الكهرباء الوطنية، ولن تعود إلا بعد ساعتين، حدث خلل ما، جعلها تعود بسرعة، فصرعه السلك الكهربائي وقتله في مكانه- أعود لأمي المسكينة، عندما قلت عبارتي "تحثني على العمل بطريقة لطيفة" فأنا أقصدها تماما، ولا أجيد غيرها للتعبير عن كمية الأسى الذي يملؤها، مثل أي تطلب من ولدها أن يترك الدراسة ويذهب الى العمل، ماذا أعمل يا أمي؟ ، أنا لا أجيد إلا بعض الأعمال الكهربائية البسيطة التي تعلمتها من أبي رحمه الله، عندما كان يخرج للعمل ويأخذني معه؟ كانت تقول وهي تحرك كفها بسرعة وغضب، وبخبرة امرأة أدمنت الحزن، وفهمت لعبة القدر مبكرا، لا لا..... أنت لن تعمل في الكهرباء، تكفيني مصيبة واحدة، الحال هذه، عليّ أن أبحث عن عمل آخر، واتفقنا على أن يكون (العمّالة[4])، مهنة من لا مهنة له، وفعلا، وقفت عدة أيام في (مسطر) العمّالة وهو المكان الذي يجتمع فيه عمال البناء والخلفات، وهم قادة العمل، بانتظار رزقهم، فلم يحالفني الحظ بالحصول على العمل إلا مرتين حصلت على أجريهما، مجرد خمسين ألف دينار، صُرفت بعد أربعة أيام على الأكل فقط، أمي وأخوتي الثلاثة، أما أنا فقد كنت أتناول الفلافل في مطعم صديقي (جواد) الذي لم يكن يأخذ مني مقابلا ماليا لما اطلبه، لذا قررت أن أذهب الى المسطر الكبير في ساحة الطيران، لعي أجد فرصة عمل أفضل، وانتظرت منذ ساعات النهار الأولى ولم يأت من يكلفني بعمل، قلت لا باس، أنا جديد هنا ولا أحد يثق بالشيء الجديد أبدا، لعلي إذا عتّقني الانتظار هنا، سأفوز بفرصة عمل، جلست في مقهى العمال القريب من المسطر، هذه فرصة للتعرف عليهم، طلبت الشاي، بعد أن تأكدت أن ثمنه معي، وشرعت أتفحص الوجوه المتعبة للعمال والخلفات، الذين سحقهم التعب، في العمل تحت أشعة الشمس الحارقة، في بناء بيوت الأثرياء، فجأة، بدأ الشارع يثرثر، الشباب الذين خرجوا في اليوم الأول من تشرين، البارحة، يعاودون الخروج مرة ثانية، يهتفون بسقوط النظام، كانوا صغارا مثلي، وبطونهم ملتصقة بظهر الجوع، كانوا يشبهوني في كل بؤسي، لكنهم كانوا أشجع مني، لم لا أقفز مثلهم في الشارع، لعلّ النظام يلتفت الينا، نحن الذين يقولون علينا، أحباب الله، كي نرضى بفقرنا، قال خلفة مسن: "هذول[5] شبابنا مساكين، هو يا نظام يتغير، المناويج والمفاليس كَضّوا[6] بالسلطة والفلوس والگحاب، بعد يا هو الي ينطيها.
فار دمي، هذا رجل يائس، هذا من الجيل الذي خاف من صدام حسين، نحن لا نخاف، سأركض في الشارع باتجاه ساحة التحرير، وأهوس تحت هذا الجدار الأبيض الذي لا أعرف ما هو، يسمونه نصب الحرية، أي حرية؟ نحن أسرى الفقر، يشدّ أيدينا بحبال الذل، أمي، هؤلاء الشباب ليسوا بأحسن مني، وخرجت.
"لببيك يا حسين" كانت هذه أول ما هتفت به، سمعتها من شاب مرّ من جواري مثل الريح، باتجاه الحائط الأبيض، والى الجسر الذي يقابله، سمعت آخر يقول بصوت عال، نعبر الجسر ونسحل الهتلية[7] الحرامية، نريد فلوسنا ولد الگحاب، الحسين بريء منكم. أزددت حماسا، قلت ما قاله بطريقة مشابهة، ضربونا بقنابل دخانية ذات رائحة تشبه رائحة الفطائس، اختنقت، سعلت سعالا طويلا، نزفت عيني حريقا، التففنا على الدخان، واصلنا الركض، وصلنا الى الجدار الأبيض، كنّا مائة شاب، ربما مائتين، أنا لا أعرف الحساب، كانوا رجالا يرتدون الأسود، ويحملون البنادق، ويقفون على الجسر، وجوارهم سيارات سود عملاقة، بدأت بأطلاق مياه ساخنة سلخت جلودنا بهذا الجو الحار، صاح أحدنا، جبناااااااء، صحت مثله، جبناااااااء ثم همست لنفسي، ولد الگحبة، ثم هدأ كل شيء، أول مرة، أنقطع الصوت، هكذا فجأة، هل كان هذا بسبب القنابل الدخانية، التي أخذت تحرق عيوننا أول مرة، وتجعلنا نسعل حتى من فتحاتنا الخلفية؟ لكن، الآن الأمور أفضل، فقد توقف سعالي، لكني لم أعد أسمع هتافات الشباب كي أقول ما يقولونه، لا أعرف من أين يأتون بهذه الهتافات، كيف يسفطون كلماتها بهذه الطريقة، آخر هتاف سمعته يتردد كصدى غاضب: "بسم الدين باكونه الحرامية" كم هي جميلة وحقيقية، هؤلاء الذين كنّا نصلي خلفهم كالبلهاء، كانوا يغادرون الحسينية بسيارات آخر موديل، ونحن نمشي على القدمين، معتقدين داخل أنفسنا، إننا نسير الى الجنة، لا بيوتنا الملآنة فقرا وذهولا، أين ذهب الصوت من حولي، أرى وجوها غاضبة من الجهتين، منّا ومن الحراس، يمنعوننا من العبور الى المنطقة الخضراء[8]، لماذا؟ لا أدري، وكما فقدت القدرة على السماع، ها أنا أفقد القدرة على المشي أيضا، أنا أمشي بطريقة مختلفة عن الآخرين، أنا شبه طائر، ربما أربع أصابع تفصلني عن الأرض، طائف في هواء معفر بالدخان الحارق ورائحة البارود والعرق، قرب الرصيف الموازي للجدار الأبيض، هذا الذي يسمونه "الحرية" رأيت نفسي أرقد على بطني، والدم يخرج من راسي، وقوة ما، سحبتني وأدخلتني الى جسدي هذا بقوة، لمحت أبي يبتسم لي، لقطة خاطفة سريعة مرت من أمامي، كان يقف تحت الجدار الأبيض، وفوقه أمي معلقة على الجدار، تبكيني، ما الذي حصل؟ كنت أشرب الشاي في مقهى العمّالة، منتظرا فرصة للعمل، لا أكثر.
[1] - وحدة سكنية من وحدات مدينة الصدر (مدينة الثورة والرافدين ثم صدام سابقا) تتكون من ألف دار صغيرة مساحة الواحد منها 144 مترا
[2]- الواقعة.
[3] - مناويك، من فعل النيك.
[4] - بناء بيوت
[5] - هؤلاء
[6] مسكوا
[7] - مسبة عراقية لا معنى لها سوى انها تغضب من يوصف بها، ومفردها (هتلي)

  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...