الأحد، 8 أغسطس 2021

 (حين وقفت الحرب)

كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي فيها، عليه ديون يجب سدادها، وكان قلبي مثقل بهذه الديون، أقصد ديون البليارد لا الحياة، فالأخيرة، تعودنا عليها حتى تكسرت الحروب على الحروب، كما يقول المتنبي، هل قال الحروب!؟ على العموم، فقد أطفأت نصف ديوني بـــ "المغالَب" يعني أن أغلب شخصا ما، وهو يدفع خسارته لتسديد ديوني، ولنا في البليارد قواعد، ما أنزل اتحاد اللعبة العالمي مثلها.
في تلك الليلة، اشتعلت السماء نيرانا، حتى خلت أن الله نفسه، يطلق الرصاص من كلاشينكوف عملاقة، في سمائه المرصعة بالنجوم، وأدعية الأمهات التي تعود خائبة، وحسرات الزواجات اللواتي لديهن جنودا في الحرب، منهم من عاد في تابوت يغطي فضيحته -فالحرب فضيحة- علم عراقي، وآخر مدفون في مكان اسمه "مفقود" لا أحد يعرف سره حتى اليوم، وربما لا وجود له في خارطة استيعاب الآه، وآخر في قفص أسر ينتظر فرج الله، الذي سيتأخر عنه لأكثر من عشرين سنة، يا لها من نكسة؟
حدث هذا في اليوم الثامن من الشهر الثامن من عام 1988، كنّا في المحل الضيق، نتساءل: "ما هذا الرمي المجنون؟" دخل عادل شقيق ماجد الذي كان في البيت المحاذي لمحل البليارد، هتف بصوت مبحوح: "وكفت الحرب". فتحنا التلفزيون، كان المذيع "مراد" رحمه الله يقرأ ما عرف بــ "بيان البيانات" قال فيه إن إيران وافقت على وقف الحرب، حسب قرار الأمم المتحدة كذا وكذا، كنت لا أهتم بأرقام البيانات قدر اكتراثي بأرقام الكرة (9) الصفراء، والكرة (8) التي نسميها زوجة الشهيد لأنها كانت سوداء -هكذا تدخل الحرب بتفاصيلها الدقيقة في حياتك حتى الترفيهية منها، فيالها من بنت كلب!- صاح ماجد فرحا، وربما هو نادم حتى هذا اللحظة: "ديونكم مطفية" أي لم يعد يطلب أحدا من رواد محله الصغير، صرخنا بفرح طفولي: "هييييييييييي"، هل فرحنا بموت ديوننا أكثر من فرحتنا بموت الحرب؟
اشتد إطلاق الرصاص الى وجه الله، لا أدري إن كان عرفانا أو لوما لأنه تأخر ثماني سنوات كي يوقف عويل هذه الحرب التافهة.
خرجت راكضا الى البيت، كان يبعد 400 مترا، عن كرة بليارد أخيرة، لم أستطع إدخالها في جيب حتفها، بعد أن أغلفها بعلم من وهم، ولأن الظلمة حالكة، مثل أيام حياتنا، والرصيف محفّر مثل أعمارنا التي حفرتها القنابل الضالة، سقطت إلى الأرض، خرج الدم من ركبتيّ، يا للألم، وقفت من جديد، كنت شابا في التاسعة عشر من الهم، لكني محدودب وقلبي شاب مبكرا، كما أي عراقي، ركضت مع شعور بالفرح لا يدانيه أي شعور، دخلت الى البيت، وجدت أهلي في غاية السعادة، إلا أبي، كان حزينا، مرتبكا من أن يطالبه أحدنا بالإيفاء بنذره، فقد كان لدى أبي، مذياع "راديو" نوع ناشيونال" صار اسمه اليوم "باناسونيك" وهو ياباني يلتقط أبعد إشارات الموجة القصيرة SW التي انقرضت وحلّ محلها الـــ FM البسيطة، كان في كل ليلة يتمدد على فراشه على الأرض، ويضع هذا الغضب "المذياع" أمامه، وكعسكري ملكي منتظم، يستمع إلى أخبار إذاعة مونتي كارلو والبي بي سي، اللتان كانتا تغطيان أخبار الحرب، ذات يوم، وكنت منشغلا بمتابعة عمل درامي لأسامة أنور عكاشة رحمه الله قلت له: "متى تطفئ هذا المذياع؟" أجابني: "نذر عليّ، عندما تقف الحرب، سأقذفه من الطابق الثاني وأحطمه" ضحك وأدار المذياع جانبا، كي يلتقط صوت المذيع المتحمس بنقل وقائع وقف الحرب، بدقة أكثر.
هذه هي قصة النذر، ولأن هذا المذياع، شكل أزمة وجودية لي، قلت لأبي بلهجة آمرة حانقة: "هيا، قم وأرمي المذياع من السطح الثاني للبيت" ضحك وقال لي بالحرف: "ولك اليوم بدت الحرب على العراق، أنت مخبل؟"
هؤلاء الكبار في السن، من أين يأتون بحكمة صنّاع التاريخ هذه؟ كيف لهم أن يقرأوا ما لا نقرأه نحن الشباب الذين هرمنا قبل أوان الحب؟
كصانع ساعات سويسرية دقيق، ظل أبي يوميا يبحث عن الحرب في مذياعه الصغير، وعندما لا يسمع صوت مدافعها عبر الموجة القصيرة، ينام مرتاحا، كان همّة طبعا أولاده الخمسة، الذين نجّاهم الله بالصدفة، ولم يعودوا في كفن خاكي.
مع الأيام ضعف دور الراديو في حياة أبي، صار لا يكترث له اكتراث الأيام السابقة، لكن، وبعد عامين، دخل صدام الى الكويت، قال أبي بصوت منهزم: "يعابيك الله، شيطلعك منها يا مصخم، جيبولي الراديو" وعدنا الى صوت مونتي كارلو والبي بي سي وصوت أمريكا هذه المرة، نسمع الى صوت المجنزرات القادمة عبر البحار لتحرير الكويت، وتحريق العراق، حتى وصلت تلك الليلة التي سقط فيها أول صاروخ على العراق، صعد أبي الى السطح، صعدت معه لاهثا من الدهشة، نظر أبي الى الأفق، كان يبدو كما لو أن كرنفالا للموت، بدأ يطلق ألعابه النارية، فرحا بأرواح الضحايا وهو يأخذهم مضرجين بالدم والرعب، أعاد أبي جملته التي ما زال صداها يتردد في رأسي كموال جنوبي حزين، ولكن هذه المرة الى أمريكا لا الى صدام: "يعابيكم الله.. بعد شيطلعكم منها".
مات أبي بعد أقل من سنة، بالتحديد في 11/11/1991 بعد أن اطمأن الى أن كل أولاده وللمرة الثانية، لم تأكلهم نيران الحرب، ودّعنا بهدوء وعلى وجهه ابتسامة غامضة، خلت أنه سيقول نبوءة جديدة، ربما كان سيقول: "انتهى العراق، اهربوا منه" من يدري، لكني أنا أقولها الآن، كما قلتها في نهاية مسلسل "فوبيا بغداد" عام 2007 على لسان البطل، الدكتور هيثم: "اهربوا.. اهربوا.. الحرب الآن بدأت".



  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...