الأحد، 8 أغسطس 2021

 (حين وقفت الحرب)

كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي فيها، عليه ديون يجب سدادها، وكان قلبي مثقل بهذه الديون، أقصد ديون البليارد لا الحياة، فالأخيرة، تعودنا عليها حتى تكسرت الحروب على الحروب، كما يقول المتنبي، هل قال الحروب!؟ على العموم، فقد أطفأت نصف ديوني بـــ "المغالَب" يعني أن أغلب شخصا ما، وهو يدفع خسارته لتسديد ديوني، ولنا في البليارد قواعد، ما أنزل اتحاد اللعبة العالمي مثلها.
في تلك الليلة، اشتعلت السماء نيرانا، حتى خلت أن الله نفسه، يطلق الرصاص من كلاشينكوف عملاقة، في سمائه المرصعة بالنجوم، وأدعية الأمهات التي تعود خائبة، وحسرات الزواجات اللواتي لديهن جنودا في الحرب، منهم من عاد في تابوت يغطي فضيحته -فالحرب فضيحة- علم عراقي، وآخر مدفون في مكان اسمه "مفقود" لا أحد يعرف سره حتى اليوم، وربما لا وجود له في خارطة استيعاب الآه، وآخر في قفص أسر ينتظر فرج الله، الذي سيتأخر عنه لأكثر من عشرين سنة، يا لها من نكسة؟
حدث هذا في اليوم الثامن من الشهر الثامن من عام 1988، كنّا في المحل الضيق، نتساءل: "ما هذا الرمي المجنون؟" دخل عادل شقيق ماجد الذي كان في البيت المحاذي لمحل البليارد، هتف بصوت مبحوح: "وكفت الحرب". فتحنا التلفزيون، كان المذيع "مراد" رحمه الله يقرأ ما عرف بــ "بيان البيانات" قال فيه إن إيران وافقت على وقف الحرب، حسب قرار الأمم المتحدة كذا وكذا، كنت لا أهتم بأرقام البيانات قدر اكتراثي بأرقام الكرة (9) الصفراء، والكرة (8) التي نسميها زوجة الشهيد لأنها كانت سوداء -هكذا تدخل الحرب بتفاصيلها الدقيقة في حياتك حتى الترفيهية منها، فيالها من بنت كلب!- صاح ماجد فرحا، وربما هو نادم حتى هذا اللحظة: "ديونكم مطفية" أي لم يعد يطلب أحدا من رواد محله الصغير، صرخنا بفرح طفولي: "هييييييييييي"، هل فرحنا بموت ديوننا أكثر من فرحتنا بموت الحرب؟
اشتد إطلاق الرصاص الى وجه الله، لا أدري إن كان عرفانا أو لوما لأنه تأخر ثماني سنوات كي يوقف عويل هذه الحرب التافهة.
خرجت راكضا الى البيت، كان يبعد 400 مترا، عن كرة بليارد أخيرة، لم أستطع إدخالها في جيب حتفها، بعد أن أغلفها بعلم من وهم، ولأن الظلمة حالكة، مثل أيام حياتنا، والرصيف محفّر مثل أعمارنا التي حفرتها القنابل الضالة، سقطت إلى الأرض، خرج الدم من ركبتيّ، يا للألم، وقفت من جديد، كنت شابا في التاسعة عشر من الهم، لكني محدودب وقلبي شاب مبكرا، كما أي عراقي، ركضت مع شعور بالفرح لا يدانيه أي شعور، دخلت الى البيت، وجدت أهلي في غاية السعادة، إلا أبي، كان حزينا، مرتبكا من أن يطالبه أحدنا بالإيفاء بنذره، فقد كان لدى أبي، مذياع "راديو" نوع ناشيونال" صار اسمه اليوم "باناسونيك" وهو ياباني يلتقط أبعد إشارات الموجة القصيرة SW التي انقرضت وحلّ محلها الـــ FM البسيطة، كان في كل ليلة يتمدد على فراشه على الأرض، ويضع هذا الغضب "المذياع" أمامه، وكعسكري ملكي منتظم، يستمع إلى أخبار إذاعة مونتي كارلو والبي بي سي، اللتان كانتا تغطيان أخبار الحرب، ذات يوم، وكنت منشغلا بمتابعة عمل درامي لأسامة أنور عكاشة رحمه الله قلت له: "متى تطفئ هذا المذياع؟" أجابني: "نذر عليّ، عندما تقف الحرب، سأقذفه من الطابق الثاني وأحطمه" ضحك وأدار المذياع جانبا، كي يلتقط صوت المذيع المتحمس بنقل وقائع وقف الحرب، بدقة أكثر.
هذه هي قصة النذر، ولأن هذا المذياع، شكل أزمة وجودية لي، قلت لأبي بلهجة آمرة حانقة: "هيا، قم وأرمي المذياع من السطح الثاني للبيت" ضحك وقال لي بالحرف: "ولك اليوم بدت الحرب على العراق، أنت مخبل؟"
هؤلاء الكبار في السن، من أين يأتون بحكمة صنّاع التاريخ هذه؟ كيف لهم أن يقرأوا ما لا نقرأه نحن الشباب الذين هرمنا قبل أوان الحب؟
كصانع ساعات سويسرية دقيق، ظل أبي يوميا يبحث عن الحرب في مذياعه الصغير، وعندما لا يسمع صوت مدافعها عبر الموجة القصيرة، ينام مرتاحا، كان همّة طبعا أولاده الخمسة، الذين نجّاهم الله بالصدفة، ولم يعودوا في كفن خاكي.
مع الأيام ضعف دور الراديو في حياة أبي، صار لا يكترث له اكتراث الأيام السابقة، لكن، وبعد عامين، دخل صدام الى الكويت، قال أبي بصوت منهزم: "يعابيك الله، شيطلعك منها يا مصخم، جيبولي الراديو" وعدنا الى صوت مونتي كارلو والبي بي سي وصوت أمريكا هذه المرة، نسمع الى صوت المجنزرات القادمة عبر البحار لتحرير الكويت، وتحريق العراق، حتى وصلت تلك الليلة التي سقط فيها أول صاروخ على العراق، صعد أبي الى السطح، صعدت معه لاهثا من الدهشة، نظر أبي الى الأفق، كان يبدو كما لو أن كرنفالا للموت، بدأ يطلق ألعابه النارية، فرحا بأرواح الضحايا وهو يأخذهم مضرجين بالدم والرعب، أعاد أبي جملته التي ما زال صداها يتردد في رأسي كموال جنوبي حزين، ولكن هذه المرة الى أمريكا لا الى صدام: "يعابيكم الله.. بعد شيطلعكم منها".
مات أبي بعد أقل من سنة، بالتحديد في 11/11/1991 بعد أن اطمأن الى أن كل أولاده وللمرة الثانية، لم تأكلهم نيران الحرب، ودّعنا بهدوء وعلى وجهه ابتسامة غامضة، خلت أنه سيقول نبوءة جديدة، ربما كان سيقول: "انتهى العراق، اهربوا منه" من يدري، لكني أنا أقولها الآن، كما قلتها في نهاية مسلسل "فوبيا بغداد" عام 2007 على لسان البطل، الدكتور هيثم: "اهربوا.. اهربوا.. الحرب الآن بدأت".



السبت، 24 يوليو 2021

قل لي الى أين المسير؟








بدأ هاجس الهجرة عام 1988 عندما كنت في المرحلة الأكاديمية الأولى لدراسة السينما، كان وما زال شغفي في (الفن السابع) لا يدانيه شغف، وبسبب ظروف الحرب الأولى مع إيران والثانية مع الكويت، وبسبب الحصار الأميركي "الدنيء" على الشعب العراقي، حققت حلمي بالسفر عام 1997 لا لدراسة السينما، بل للبحث عن فرصة عمل في الأردن، المكان الوحيد الذي كان يحق للعراقي السفر إليه!
في الأردن شاهدت الصحب من الفنانين والكتّاب، يقفون بطوابير أمام الأمم المتحدة التي كان مقرها في "شميساني" منهم من يقدم طلبا للجوء، ومنهم من يستلم قرار توطينه، حتى أني شاهدت شاعرا كان من أكبر المادحين لصدام، يهتف بعد أن ظهر توطينه في "هولندا" صائحا: "يالتنشد، أمستردام عنواني".
تقدمت عدة خطوات نحو باب المفوضية لكني تذكرت أن لي أهلا في العراق، خفت عليهم من تحمل وزر طلبي للجوء، تركت الأمر، وتمكنت من بيع أول أعمالي في الأردن لا في العراق -وهذه من المفارقات- للأخ المنتج الأردني محمد ياغي، والذي كان بعنوان "اللاهثون" وتم تعديل القصة والحوار ورفع مشاهد الموبايل، فقد تم انتاجه عراقيا لا أردنيا كما هو مكتوب، بقيت في الأردن عدة أشهر، وعملت مع المنتج فواز الزبن والمنتج والأخ الكريم محمود الشيبي وآخرين.
سفرتي الثانية عام 2001 كانت الى الأردن أيضا، وكانت هذه السفرة، هروبا من حزني على أخي صادق الذي توفي بمرض عضال رحمه الله، وأنا هناك، سمح للعراقيين بالسفر الى سوريا، ولأن الشام حلم عمري الذي لا ينتهي، على الفور أخذت تكسي ووصلت الشام منتصف الليل، فلم أجد مكانا أنام فيه سوى حديقة أحد المساجد -لا أذكر اسمه الآن- ثم أجرت في نهار اليوم التالي منزلا منزويا على حافة تل عال، وعرفت من خلال مخلفاته أن الساكن قبلي، لم يكن سوى أخي وصديق عمري الدكتور حسن السوداني، وقد سافر قبل أيام الى السويد، قلت مع نفسي، فعلها هذا الملعون وعبر البحر.
في سوريا بقيت عدة أيام ثم عدت الى العراق.
ما زال هاجس الهجرة يؤرقني، كذلك تحمل مسؤولية زوجة وأربعة أطفال صغار، وقد بلغ الحصار فينا مبلغا منكسا للكرامة والأمل.
سقط صدام وانتهت الدكتاتورية، هللنا وفرحنا، ومن كان ينوي الهجرة، عدل عن قراره، متوهما أن خلاصا ممكنا في العراق قد لاح أفقه من بعيد، لكني مؤمن بقول أحدهم: "هنالك ضوء في نهاية النفق، قطار قادم ليدهسك" وكان هذا القطار هو الحرب الأهلية التي اشتعلت في العراق عام 2006 بين الأخوة الأعداء.
كانت هجرتي هذه المرة حقيقية، الشام طبعا، وأين، أبعد مكان عنها وأقرب مكان الى العراق، الى الحسكة، المحافظة الوادعة، النائمة على نهر الخابور المندرس، كنت أرى من نافذة شقتي العالية ظلال جبل سنجار الذي يبعد عني ساعتين، فأبكي وأنا أسمع صوت كريم منصور ينوح: "تغطيت وبعدني الليلة بردان، لأن مو أنت يمي، فراشي بارد".
قدمت اللجوء الى أميركيا عند المفوضية التي كان يديرها الحسكاوي "أبو يوسف" وكان معي الكاتب فلاح شاكر، لكن، وبعد عامين ونصف، سمعنا أنباء مفرحة من أن العراق قد لعق جراحه الأزلية وأن اللعبة الطائفية التي بدأت 2006 قد انتهت بالتعادل صفر صفر، ولا أعرف كيف، عدت الى بغداد على امل جديد، لكني رأيت ضوء جديدا في النفق، إنه قطار آخر قادم إليّ، وبقدرة قادر، حصلت على فيزا الى أوربا، بعت مكتبتي، قلت لأهلي، لن أعود، كان هذا عام 2009، فحملت حقيبة صغيرة، وطرت الى باريس، وهناك رأيت لون السماء مختلفا عن سماواتنا الرمادية، فهي زرقاء، زرقاء جدا، والغيم، يشبه قطع عملاقة من القطن، تعوم في فضائها، صحت: "ولكم الله يحب فرنسا أكثر من بلداننا المسلمة، خايبين شوفوا الجو". ضحكت الأرصفة وواجهات المحلات الأنيقة، لوحت لي مبتسمة، شابة تشبه "الحلقوم" كانت منشغلة بتقبيل رجل أفريقي، نحيف وطويل، طويل جدا، أطول من حروبنا.
قال مضيفي: هونك، تعال نركب المترو لترى الطراوة الفرنسية، وهي تجلس مقاطعة ساقيها للريح ولعيوننا المكبوتة، ولأن وصولي كان في شهر الحر تموز، كن الباريسيات الأنيقات لا يرتدين من الثياب إلا أقلّها قماشا، وأكثرها عذابا، عذاب رجل أربعيني "خرج من الحرب سهوا" كما يقول صديقي اللعين الثاني بعد حسن السوداني، الشاعر عدنان الصائغ، فقد غادر العراق هو الآخر أيضا في التسعينات، "لعنكما الله، كيف تركتماني ككلب محصور في جامع مليء بــ "نعل المصلين؟"
قلت لمضيفي، خذني لمتحف اللوفر، فأخذني، وبكيت عندما رأيت أول قطعة في المتحف، وهي مسلّة جدي الذي لا أعرفه ولا يعرفني جينيا، جدو "حمورابي" ثم قلت مع نفسي: "من الجيد إنها هنا، فلو كانت في متحف العراق الوطني الذي في العلاوي، لكانت قد هدمت أو سرقت ليلة التاسع من نيسان احتلال بغداد، وربما في أحسن الأحوال، تباع منها قطعا، في سوق الحرامية أو سوق الوقفة في الباب الشرقي، مع القنادر والثياب المستخدمة "البالات".
في اللوفر التقطت أول صورة "سيلفي" بتاريخ البشرية، مع المونوليزا، بعد أن نفدت بطارية كاميرتي، كان هاتفي بكاميرا خلفية واحدة نوع نوكيا، أيام مجد هذه الشركة.
بعد أسبوع من حياتي الباريسية الأنيقة، سافرت لمدينة ليون، لألتقي بصديقي دمث الخلق، الكوميدي الساخر، النحات "حيدر وادي" وزوجته الفرنسية (فلورنس) لأسكن عند السيدة "أديث" عازفة البيانو في الفرقة السمفونية الجنيفية، القريبة من "ليون" فكانت هذه فرصة للسفر الى جنيف، عاصمة الدولة التي وقفت دائما على الحياد، وفي كل الحروب، حتى صارت مكانا جيدا، يخبئ اللصوص الكبار في بنوكه، خردة أحلامنا التي سرقوها، أموالهم السحت المقدس.
سافرت الى جنيف كي ألتقي صديق عزيز عليّ، وهو "ر.أ" الساكن في زيورخ -تبعد أربع ساعات عن جنيف- حتى إذا جاء، تسكعنا في المدينة التي كانت ميته، لولا بحيرتها ونافورتها العالية، ولأول مرة أشاهد عاهرات يقفن أمام محلاتهن لعرض بضاعتهن المغرية، وتعاملت مع واحدة منهن وكانت ملونة، سألتها "أشكد أبيش؟" ترجم صديقي حيدر وهو يضحك، فجاءني الجواب "ستون يورو" قلت لها "يصير بخمسين؟" وأنا وحيدر و "ر.أ" نضحك، فقالت بعصبية غاضبة: "Pourquoi" وتنطق كل هذه الحروف هكذا "بكوا؟" يعني بالعراقي: "ليش عيني، أشايفني، عوبه؟" لكني فهمت من غضبها أن الشعب الجنيفي لا يعرف معنى "العِمْلَة" والمشاطرة التي نمارسها في أسواقنا العربية، فجرجرنا خطواتنا ونحن نقهقه -ولحد الآن لا أعرف لماذا كنّا نضحك- الى أقرب مطعم تركي، كي نأكل اللحم الحلال!
في جنيف، زرنا نصب "الشهيد" دميلو، مبعوث الأمم المتحدة الذي جاء الى العراق كي يصنع وطنا تعترف به الأمم، فأرجعناه الى عائلته أشلاء مقطة! قدمت له بوكيه ورد، مع اعتذار خجول، قلت له: "ما أدري شكلك خوية؟".
عند البحيرة، اتصل بي المنتج العربي اللبناني الصديق "صادق الصبّاح" ليبارك لي نجاح مسلسل "الحب والسلام" وقد كان يعرض وقت سفري، أذكر أني رقصت وحدي وحيدر و "ر" يصفقان لي، لم يبق -كي تكتمل سعادتي- سوى إكمال مراسم ذبح الأضحية، بتقديم طلبي للحصول على حق اللجوء السياسي، لأخلص من كآبتي المزمنة.
عدنا الى ليون ذات النهرين، كي أبحث عن أقرب مركز شرطة لأحصل على حق اللجوء، كبقايا إنسان، هرشت عمره الحكومات الوطنية! وقفت أمام باب المركز، هي خطوات تفصلني عن حلمي الأزلي في الهجرة الذي كان منذ عام 1988، تقدمت بعضها، شعرت بغصة الى اليوم لا أعرف معناها، شيء يشبه خازوق بلوري يتوعد لي بحياة جديدة، في مدينة هادئة، كوجه إنسان ميت، كما قال أحد الشعراء الذي نسيت من هو، يمكن روسي، المهم، خفت من التجربة، خفت من صوت أوراق الأشجار وهي تسقط فيطيرها الهواء، كعصافير ملونة، خفت من النساء الجميلات، والنهرين العامرين بالأسرار، هذه مدينة لا أحتملها، هواؤها الخفيف، ثقيل على رئتي، مدمنتا النيكوتين والقطران ورائحة البارود واليورانيوم المنضّب، دَمْعت، هو آني هيچ "أبو دميعة" قلت لحيدر، خوية احجز لي أقرب طائرة تعود بي الى الخراب الأزلي، الذي قدر لي أن أختم حياتي فيه، دعني أحتفل هناك، في بغداد، وسط المؤامرات الليلة التي يحوكها الزعماء الوطنيون، بخيوط منسلة من بقايا أعمارنا، دعني أحتفل وحدي بنجاح مسلسل "الحب والسلام" وأنا أسمع صوت "صلية" كلاشنكوف على بيت "مكرود" عنده طلابة مع عشيرة تمتاز بالعادات العربية الحميدة، وعلى صوت انفجار سيارة إسلامية، تقطع أوصال الأبرياء في الأسواق والمناطق الشعبية، يا أخي أحنّ الى صوت الطائرات الأميركية وهي تخترق حاجز الصوت، فتصدر انفجارا قويا يذكرنا بهذا البلد الذي يصدر الحرية والديموقراطية الى شعوب العالم، بواسطة عربة نقل اسمها "كروز"، أرجعني يا حيدر الى بغداد، فمثلي لن يعيش في غير خرابها. وللقصة بقية.

الخميس، 22 يوليو 2021

 رسالة من الكاتب المسرحي أحمد الصالح:

"

رسالة مفتوحة للصديق الكاتب
اتابعك منذ فترة من خلال بوستاتك وتأكد لي أنك تمر بحالة اكتئاب غير حميدة ..
انت معذور طبعا ..
فحسك الإنساني ووعيك والظروف التي تعيشها هناك أسباب مقنعة لما انت فيه ...
لكنك لم تزل بوعيك ومتمكن من قدراتك على ما أظن .. وهذا هو الوجه الحسن في قصتنا هذه ..
ولاني شاهدت لك بعض اعمالك التلفزيونية على اليوتوب ..
اجد من باب الصداقة أن أدعوك مخلصا إلى التفكير بكتابة مسلسل (كوميدي اجتماعي) وفق القياسات المتعارف عليها مهنيا وعالميا .. وانت تعرفها بالطبع ..
ليكن مسلسل Friends الأمريكي مثالك ..!!
مسلسل يتناول التغيرات الكبيرة التي طرأت على سلوك شباب العراق في السنوات الأخيرة وفي مقارنة مع فترة ( شباب ) آبائهم في زمن صدام ..
وانت عشت الحقبتين ...
مسلسل كوميدي ساخر من هذا النوع .. بحيث وانت تكتب حواراته تضحك ..
انا واثق سيخفف كثيرا من حالتك .. وفي نفس الوقت ستقدم لنا عملا يستحق المشاهدة ...!
ستقول لي ..
لماذا لا تكتب انت ..؟!
صدقني ..
لا وقت عندي لذلك ..
ولا عندي ( قرصاغك ) وطول خلگك بالكتابة ..
كما أني لم أعش حقبة ما بعد صدام في العراق ...
توكل على الله ..
وفكر بالموضوع ..
اخوكم ..

فكان هذا جوابي له مع المحبة

"سعدتُ وأنا أقرأ رسالة الكاتب الصديق الأستاذ أحمد الصالح، المقيم -قسرا- في الولايات المتحدة، وشريك البلوى، عندما قمنا ببيع مكتباتنا الشخصية منتصف التسعينات في المتنبي، بعد أن هرسنا الحصار الاقتصادي الملعون.

صديقي أنت تعتقد أن الكتابة الكوميدية، تجعل الكاتب يخرج من كآبته، وفي هذا نوع من حقيقة، لكن لا ننسى أن عظيم الكوميديا، الإنكليزي (شارلي شابلن) كان كئيبا على الدوام، حتى أنه هرب بزوجته (آنا) ابنة المسرحي العظيم (أونيل) الى أرض نائية في سويسرا، بعد أن منعته الولايات المتحدة الأميركية من الدخول الى أراضيها، عندما سافر ليوزع فلمه "أضواء المسرح"! لــ "شبهة في أفكار ماركسية تتخلل أفلامه" فقرر العزلة الحزينة حتى مات، بعد أن منحوه "غصبا عنهم" الأوسكار الشرفي الوحيد أواخر أيامه، وأسألك هذه المرة:
كيف لا تكون كئيبا وأنت ترى جرف الوطن تأكله الخيانات التي ترتدي قناع الوطنية الزائف؟
وترى الى مستقبل مجهول ينتظر أولادك من بعدك، وأنت تتركهم في مجتمع قاس وبدوي وقروي متأخر، الواحد فيه يستطيع أن يقتلك بــ "صلية" كلاشينيكوف بدم بارد لأتفه سبب بالكون؟
كيف لا تكون كئيبا، وأنت تسمع لشوبان وموزارت وبيتهوفن، فيدخل الى مسمعك صوت مؤذن، يؤذن بقوة مائة ديسابل، بينما تستحمل الأذن البشرية عشرة ديسابل فقط؟ او ترنيمة العصر عن الصمون الذي عشرة منه بألف، أو هيلب مي مستر بايدن؟
كيف لا تكون كئيبا وأنت ترى من تعرفهم وتعرف تاريخهم القديم والمشوه، يَعْلَون في المناصب لا عن جدارة، بل عن تملق ولواكه، ويقررون مصير حياتك ومستقبل أولادك؟
كيف لا تصاب بالكآبة وأنت كلما خرجت الى الشارع بسملتَ، وبسملتْ عائلتك معك، فإذا عدت سالما، تحمدتَ، وتحمدتْ عائلتك معك، كأن الشارع صار ساحة حرب لا فسحة فيه للعمل أو النزهة؟
اتركنا من الكآبة، ودعني أقصُّ لك الأخبار الجيدة والتي ستبهج قلبك المحب:
منذ أن اشتعلت نار الوباء، وبسبب طبعي بالبقاء في البيت، "لإيماني أن خارجه خطر دائم" قررت الاستفادة من هذه العزلة الإجبارية، فراجعت أوراقي القديمة، وجدت عدة كتب وروايات قديمة لم تكتمل بعد، اتصلت بالكاتب المسرحي الكبير فلاح شاكر، وفي لجّة الحوار، ذكّرني برواية قديمة، كنت قد أكملت أكثر من نصفها، وكان هو الوحيد الذي أطلع عليها، بواقعها المحدّث، فحثني على إكمالها، وقد كان مشجعا جدا بطلبه، وفعلا، ولأكثر من سنة، وبساعات عمل مستمرة من الظهر حتى وقت متأخر من الليل، أكملتها وأنا ألعب "الختيلان" مع فايروس كورونا.
أرسلت الرواية الى فلاح والى الروائي الصديق القديم الأستاذ حميد المختار، وإلى المثقف الكبير نصير غدير، والروائي أسعد الهلالي وآخرين من الزملاء الأحبة، وطلبت منهم مراجعة الرواية وتصحيح الأخطاء اللغوية والنحوية التي فاتتني، فلم يقصروا بذلك، وشجعوني على نشرها.
بدأت بالاتصال بدور النشر العراقية لنشرها، لكن فلاح أتصل بي في وقت متأخر من ذات ليل، وقال لي:
"الليلة آخر موعد للمشاركة في مسابقة (كتارا) للرواية في قطر، وفي المسابقة فئة للرواية الغير منشورة، أرسل روايتك وستفوز"
وفعلا، أرسلت الرواية قبل موعد نهاية استلام النصوص بساعات قليلة، وستظهر نتائج المسابقة شهر كانون الثاني من هذا العام.
علما أن هذه الرواية شرعت بها عام 1996، والوحيد الذي قرأها يومها، هو المرحوم خضير ميري، والذي ألحّ على الاستمرار في كتابتها، لكن هروبي الى عمّان عام 1997 حال دون ذلك.
بعد ذلك شرعت بإكمال رواية كنت قد أنهيت نصفها أيضا قبل عدة سنوات، وتتحدث عما جرى في بغداد ليلة مقتل "عبد الكريم قاسم" وهنا أول مرة أبوح بموضوع الرواية.
وأثناء الكتابة هذه، كنت قد شرعت بتدوين يومياتي مع موضوع كورونا بنوع من تأمل، فأكملت الجزء الأول وشرعت بالجزء الثاني من الكتاب عن الموضوع نفسه، كما أكملت أول خمسين ورقة من ما تحفل به ذاكرتي عن الخمسين سنة التي عشتها، وهذا كتاب آخر.
كذلك كتبت سيناريو مسلسل من ثلاثين حلقة، وحدث اختلاف بيني وبين جهة الإنتاج ووضع على الرف بانتظار فرصة لظهوره للجمهور الكريم.
فكما ترى صديقي العزيز، الاشتغال بروايتين وكتابين في آن واحد، مع إكمال مسلسل درامي من ثلاثين حلقة، وفي زمن الموت هذا، شيء جيد، وأيضا، كوني كاتب سيناريو، هذا لا يمنعني من كتابة باقي أنواع الفنون، ولا ننسى بأن نجيب محفوظ وماركيز، كانت بدايتهما مع السيناريو، ثم هربا الى الرواية، ونالا من خلالها، نوبل الأدب بجدارة.
لماذا تركت السيناريو كما تعتقد؟
نعم تركت السيناريو في الوقت الحاضر لأن شروط الإنتاج اليوم لا توافق طريقتي في الكتابة، وأنت تعرفها كونك مختص في الكتابة الدرامية، بل وأقدَم مني نشاطا وإبداعا، وفي هذا حديث نقوله في مناسبة أخرى.
مسلسل الأصدقاء FRIENDS الأميركي، الذي بدأ إنتاجه عام 1994 وانتهى عام 2004 من المسلسلات المهمة التي انتجها تلفزيون ورانر برذرز، وقد شاهدت معظم حلقاته في موقع سينمانا، وهو مسلسل حقق نجاحا جماهير في العالم كله لا في الولايات المتحدة فقط، كان زمن الحلقة أقل من نصف ساعة، وهو يتحدث عن الحياة اليومية لست شخصيات تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين.
يسمى هذا النوع من المسلسلات بــ "السيت كوم" وأنا أول من كتبه في العراق، بواقع خمسين حلقة في جزأين لقناة البغدادية عامي 2004-2005 باسم "عائلة في زمن العولمة" وتنبأت فيه بكل ما سيجلبه الأنترنت من مشاكل اجتماعية خطيرة، وحقق المسلسل نجاحا طيبا.
أما لماذا لا أكتب مقترحك الكريم والمستفز إبداعا، فهذا لأني منشغل بإكمال روايتي الثانية والكتابين الآخرين، والوقت لا يسمح لي بمواصلة التأليف للتلفزيون في الوقت الحاضر على الأقل.
شكرا ثانية لمحبتك وقلقك على رفيق مهنتك، وهذا نبل قلّ أن نجده في تاريخ العلاقات الأدبية العراقية، خاصة موضوع الرسائل المتبادلة بين الكتّاب، لعل رسالتك هذه وجوابي لها، تكون فاتحة لنوع مهم من أنواع الكتابة الإبداعية التي يفتقد إليها الأدب العراقي، كتب الرسائل الخاصة.

  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...