السبت، 24 يوليو 2021

قل لي الى أين المسير؟








بدأ هاجس الهجرة عام 1988 عندما كنت في المرحلة الأكاديمية الأولى لدراسة السينما، كان وما زال شغفي في (الفن السابع) لا يدانيه شغف، وبسبب ظروف الحرب الأولى مع إيران والثانية مع الكويت، وبسبب الحصار الأميركي "الدنيء" على الشعب العراقي، حققت حلمي بالسفر عام 1997 لا لدراسة السينما، بل للبحث عن فرصة عمل في الأردن، المكان الوحيد الذي كان يحق للعراقي السفر إليه!
في الأردن شاهدت الصحب من الفنانين والكتّاب، يقفون بطوابير أمام الأمم المتحدة التي كان مقرها في "شميساني" منهم من يقدم طلبا للجوء، ومنهم من يستلم قرار توطينه، حتى أني شاهدت شاعرا كان من أكبر المادحين لصدام، يهتف بعد أن ظهر توطينه في "هولندا" صائحا: "يالتنشد، أمستردام عنواني".
تقدمت عدة خطوات نحو باب المفوضية لكني تذكرت أن لي أهلا في العراق، خفت عليهم من تحمل وزر طلبي للجوء، تركت الأمر، وتمكنت من بيع أول أعمالي في الأردن لا في العراق -وهذه من المفارقات- للأخ المنتج الأردني محمد ياغي، والذي كان بعنوان "اللاهثون" وتم تعديل القصة والحوار ورفع مشاهد الموبايل، فقد تم انتاجه عراقيا لا أردنيا كما هو مكتوب، بقيت في الأردن عدة أشهر، وعملت مع المنتج فواز الزبن والمنتج والأخ الكريم محمود الشيبي وآخرين.
سفرتي الثانية عام 2001 كانت الى الأردن أيضا، وكانت هذه السفرة، هروبا من حزني على أخي صادق الذي توفي بمرض عضال رحمه الله، وأنا هناك، سمح للعراقيين بالسفر الى سوريا، ولأن الشام حلم عمري الذي لا ينتهي، على الفور أخذت تكسي ووصلت الشام منتصف الليل، فلم أجد مكانا أنام فيه سوى حديقة أحد المساجد -لا أذكر اسمه الآن- ثم أجرت في نهار اليوم التالي منزلا منزويا على حافة تل عال، وعرفت من خلال مخلفاته أن الساكن قبلي، لم يكن سوى أخي وصديق عمري الدكتور حسن السوداني، وقد سافر قبل أيام الى السويد، قلت مع نفسي، فعلها هذا الملعون وعبر البحر.
في سوريا بقيت عدة أيام ثم عدت الى العراق.
ما زال هاجس الهجرة يؤرقني، كذلك تحمل مسؤولية زوجة وأربعة أطفال صغار، وقد بلغ الحصار فينا مبلغا منكسا للكرامة والأمل.
سقط صدام وانتهت الدكتاتورية، هللنا وفرحنا، ومن كان ينوي الهجرة، عدل عن قراره، متوهما أن خلاصا ممكنا في العراق قد لاح أفقه من بعيد، لكني مؤمن بقول أحدهم: "هنالك ضوء في نهاية النفق، قطار قادم ليدهسك" وكان هذا القطار هو الحرب الأهلية التي اشتعلت في العراق عام 2006 بين الأخوة الأعداء.
كانت هجرتي هذه المرة حقيقية، الشام طبعا، وأين، أبعد مكان عنها وأقرب مكان الى العراق، الى الحسكة، المحافظة الوادعة، النائمة على نهر الخابور المندرس، كنت أرى من نافذة شقتي العالية ظلال جبل سنجار الذي يبعد عني ساعتين، فأبكي وأنا أسمع صوت كريم منصور ينوح: "تغطيت وبعدني الليلة بردان، لأن مو أنت يمي، فراشي بارد".
قدمت اللجوء الى أميركيا عند المفوضية التي كان يديرها الحسكاوي "أبو يوسف" وكان معي الكاتب فلاح شاكر، لكن، وبعد عامين ونصف، سمعنا أنباء مفرحة من أن العراق قد لعق جراحه الأزلية وأن اللعبة الطائفية التي بدأت 2006 قد انتهت بالتعادل صفر صفر، ولا أعرف كيف، عدت الى بغداد على امل جديد، لكني رأيت ضوء جديدا في النفق، إنه قطار آخر قادم إليّ، وبقدرة قادر، حصلت على فيزا الى أوربا، بعت مكتبتي، قلت لأهلي، لن أعود، كان هذا عام 2009، فحملت حقيبة صغيرة، وطرت الى باريس، وهناك رأيت لون السماء مختلفا عن سماواتنا الرمادية، فهي زرقاء، زرقاء جدا، والغيم، يشبه قطع عملاقة من القطن، تعوم في فضائها، صحت: "ولكم الله يحب فرنسا أكثر من بلداننا المسلمة، خايبين شوفوا الجو". ضحكت الأرصفة وواجهات المحلات الأنيقة، لوحت لي مبتسمة، شابة تشبه "الحلقوم" كانت منشغلة بتقبيل رجل أفريقي، نحيف وطويل، طويل جدا، أطول من حروبنا.
قال مضيفي: هونك، تعال نركب المترو لترى الطراوة الفرنسية، وهي تجلس مقاطعة ساقيها للريح ولعيوننا المكبوتة، ولأن وصولي كان في شهر الحر تموز، كن الباريسيات الأنيقات لا يرتدين من الثياب إلا أقلّها قماشا، وأكثرها عذابا، عذاب رجل أربعيني "خرج من الحرب سهوا" كما يقول صديقي اللعين الثاني بعد حسن السوداني، الشاعر عدنان الصائغ، فقد غادر العراق هو الآخر أيضا في التسعينات، "لعنكما الله، كيف تركتماني ككلب محصور في جامع مليء بــ "نعل المصلين؟"
قلت لمضيفي، خذني لمتحف اللوفر، فأخذني، وبكيت عندما رأيت أول قطعة في المتحف، وهي مسلّة جدي الذي لا أعرفه ولا يعرفني جينيا، جدو "حمورابي" ثم قلت مع نفسي: "من الجيد إنها هنا، فلو كانت في متحف العراق الوطني الذي في العلاوي، لكانت قد هدمت أو سرقت ليلة التاسع من نيسان احتلال بغداد، وربما في أحسن الأحوال، تباع منها قطعا، في سوق الحرامية أو سوق الوقفة في الباب الشرقي، مع القنادر والثياب المستخدمة "البالات".
في اللوفر التقطت أول صورة "سيلفي" بتاريخ البشرية، مع المونوليزا، بعد أن نفدت بطارية كاميرتي، كان هاتفي بكاميرا خلفية واحدة نوع نوكيا، أيام مجد هذه الشركة.
بعد أسبوع من حياتي الباريسية الأنيقة، سافرت لمدينة ليون، لألتقي بصديقي دمث الخلق، الكوميدي الساخر، النحات "حيدر وادي" وزوجته الفرنسية (فلورنس) لأسكن عند السيدة "أديث" عازفة البيانو في الفرقة السمفونية الجنيفية، القريبة من "ليون" فكانت هذه فرصة للسفر الى جنيف، عاصمة الدولة التي وقفت دائما على الحياد، وفي كل الحروب، حتى صارت مكانا جيدا، يخبئ اللصوص الكبار في بنوكه، خردة أحلامنا التي سرقوها، أموالهم السحت المقدس.
سافرت الى جنيف كي ألتقي صديق عزيز عليّ، وهو "ر.أ" الساكن في زيورخ -تبعد أربع ساعات عن جنيف- حتى إذا جاء، تسكعنا في المدينة التي كانت ميته، لولا بحيرتها ونافورتها العالية، ولأول مرة أشاهد عاهرات يقفن أمام محلاتهن لعرض بضاعتهن المغرية، وتعاملت مع واحدة منهن وكانت ملونة، سألتها "أشكد أبيش؟" ترجم صديقي حيدر وهو يضحك، فجاءني الجواب "ستون يورو" قلت لها "يصير بخمسين؟" وأنا وحيدر و "ر.أ" نضحك، فقالت بعصبية غاضبة: "Pourquoi" وتنطق كل هذه الحروف هكذا "بكوا؟" يعني بالعراقي: "ليش عيني، أشايفني، عوبه؟" لكني فهمت من غضبها أن الشعب الجنيفي لا يعرف معنى "العِمْلَة" والمشاطرة التي نمارسها في أسواقنا العربية، فجرجرنا خطواتنا ونحن نقهقه -ولحد الآن لا أعرف لماذا كنّا نضحك- الى أقرب مطعم تركي، كي نأكل اللحم الحلال!
في جنيف، زرنا نصب "الشهيد" دميلو، مبعوث الأمم المتحدة الذي جاء الى العراق كي يصنع وطنا تعترف به الأمم، فأرجعناه الى عائلته أشلاء مقطة! قدمت له بوكيه ورد، مع اعتذار خجول، قلت له: "ما أدري شكلك خوية؟".
عند البحيرة، اتصل بي المنتج العربي اللبناني الصديق "صادق الصبّاح" ليبارك لي نجاح مسلسل "الحب والسلام" وقد كان يعرض وقت سفري، أذكر أني رقصت وحدي وحيدر و "ر" يصفقان لي، لم يبق -كي تكتمل سعادتي- سوى إكمال مراسم ذبح الأضحية، بتقديم طلبي للحصول على حق اللجوء السياسي، لأخلص من كآبتي المزمنة.
عدنا الى ليون ذات النهرين، كي أبحث عن أقرب مركز شرطة لأحصل على حق اللجوء، كبقايا إنسان، هرشت عمره الحكومات الوطنية! وقفت أمام باب المركز، هي خطوات تفصلني عن حلمي الأزلي في الهجرة الذي كان منذ عام 1988، تقدمت بعضها، شعرت بغصة الى اليوم لا أعرف معناها، شيء يشبه خازوق بلوري يتوعد لي بحياة جديدة، في مدينة هادئة، كوجه إنسان ميت، كما قال أحد الشعراء الذي نسيت من هو، يمكن روسي، المهم، خفت من التجربة، خفت من صوت أوراق الأشجار وهي تسقط فيطيرها الهواء، كعصافير ملونة، خفت من النساء الجميلات، والنهرين العامرين بالأسرار، هذه مدينة لا أحتملها، هواؤها الخفيف، ثقيل على رئتي، مدمنتا النيكوتين والقطران ورائحة البارود واليورانيوم المنضّب، دَمْعت، هو آني هيچ "أبو دميعة" قلت لحيدر، خوية احجز لي أقرب طائرة تعود بي الى الخراب الأزلي، الذي قدر لي أن أختم حياتي فيه، دعني أحتفل هناك، في بغداد، وسط المؤامرات الليلة التي يحوكها الزعماء الوطنيون، بخيوط منسلة من بقايا أعمارنا، دعني أحتفل وحدي بنجاح مسلسل "الحب والسلام" وأنا أسمع صوت "صلية" كلاشنكوف على بيت "مكرود" عنده طلابة مع عشيرة تمتاز بالعادات العربية الحميدة، وعلى صوت انفجار سيارة إسلامية، تقطع أوصال الأبرياء في الأسواق والمناطق الشعبية، يا أخي أحنّ الى صوت الطائرات الأميركية وهي تخترق حاجز الصوت، فتصدر انفجارا قويا يذكرنا بهذا البلد الذي يصدر الحرية والديموقراطية الى شعوب العالم، بواسطة عربة نقل اسمها "كروز"، أرجعني يا حيدر الى بغداد، فمثلي لن يعيش في غير خرابها. وللقصة بقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...