الاثنين، 4 نوفمبر 2019

الجيل الإلكتروني المتمرد


أطلق عليه بعض المهتمين - وهم يحاولون تعريفه - اسم "جيل ما بعد بعد الحداثة" ولكن، ماذا عن الأجيال القادمة بعده؟ هل سنبقى نقول: جيل ما بعد بعد بعد بعد بعد الحداثة؟ هذه إشكالية انبثقت أول مرة عندما تم اختراع لقب "جيل الحداثة" ثم "جيل ما بعد الحداثة" كانت الدعوة صريحة للبحث عن اسم جديد للأجيال التي ستأتي بعد جيل ما بعد الحداثة، وهم، الجيل الذي ولد بعد ست سنوات من عام 1989، عام هدم جدار برلين، الجيل الذي أنفتح على العالم، مهدمّا جدران الفصل الفكري والاقتصادي، والذي قتل "متوهما" الحرب الباردة الأميركية-الروسية، وبالتحديد الجيل الذي ولد في منتصف تسعينات القرن الماضي، والذي يطلق عليه الخبراء، الجيل زد Generation Z) ) هذا الجيل الذي يحرك الشارع الغاضب في كل قارات العالم اليوم، في شيلي، هونغ كونغ، برشلونه، باريس، الجزائر، بيروت، بغداد ودولا أخرى، هذا الجيل الذي نشأ مع نشوء ثورة الاتصال الإلكتروني، خاصة بعد ظهور العملاقان فيس بك وتويتر، كذلك الناشر الفلمي المهول، يوتيوب، هذا الجيل الذي لم يربَّ من قبل والديه وعائلته فقط، كما هو المعهود ، بل تدخل في التربية، آخرون، استطاعوا في أحيان كثيرة التأثير على أبناء هذا الجيل، لدرجة أن يقوم شاب عراقي، بتجنيد مراهقة ألمانية، ويجرها من ألمانيا الى داخل العراق، عن طريق تركيا ويتزوجها، ثم تعمل معه في الإرهاب، وهذا ما أطلعت عليه شخصيا في ملفات الإرهاب في العراق، هذا الجيل، ببساطة لا يمكن السيطرة عليه، خاصة وأنه حشر في زاوية الفقر الضيقة، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي حدثت عام 2008 وفساد الحكومات التي توالت على حكم العراق، وباقي الدول التي نشهد لها بالثورات هذه الأيام، فكيف إذا جاء الكساد الاقتصادي المتوقع في 2020؟ ماذا سيفعل أبناء هذا الجيل، الذي يمتاز بعدّة أشياء قد لا يدركها الكل؟
لهذا الجيل عدة مميزات دعونا نذكر بعضها على عجالة:
1-  لا شيء مقدس عند أبناء هذا الجيل، وإن وجد، فسيتم تقدسيه بطريقة مريضة، كما عند متطرفي السنة والشيعة واليمين المسيحي المحافظ، والكرد العنصريين ومثلهم التركمان وباقي مكونات العراق مثلا، كذلك النازيين الجدد في أوربا وغير دول، ممن هم بهذا العمر.
2-  أبناء هذا الجيل، لا يعرفون رموز بلادهم الثقافية والفنية والاجتماعية، ربما يعرفون نجوم كرة القدم، فهذه لعبة شعبية، أما إذا سألتهم عن رموز بلدهم التي ذكرت، فلا يكادون يعرفون إلا ما درسوه في المدارس.
3-  لا يحبون الشعر الرصين، يفضلون الشعر الشعبي البسيط، والذي نجح في تناول همومهم الحياتية، بينما فشل شعر التفعيلة المغال بقوانينه، والشعر الحر الذي صار مطية للعديد من الشعراء ممن هم من أبناء هذا الجيل، ليكتبوا في كلمات لا معنى لها، قصائد هزيلة، يصفق لها أبناء جيلهم أنفسهم، ممن لم يقرأ للسياب أو للماغوط مثلا!
4-  أبناء هذا الجيل، الجيل Z، لا يسمعون الأغاني الجميلة التي تربينا عليها، ذات الكلمات الجميلة والألحان الهادئة، بل يميلون الى سماع الأغاني السريعة، والأخرى التي تفلت كلماتها، من أي قيود شعرية ولغوية، والتي أسمها (الراب)، نعم فالراب محرض أكثر من أغاني فيروز أو أم كلثوم، التي تدعو الى الحب وتتحدث عن غدر الحبيب، فهذا الجيل، ليس عنده مشكلة إن غدر به حبيبه، أو غير حبيبته يوميا، إذا حدثت أبسط مشكلة بين المحبين، فالحب أو (العروض لعلاقات جديدة) أمر صار متاحا على صفحات التواصل الاجتماعي، لهذا نرى كثرة حالات الطلاق في مجتمعاتنا المعاصرة، عكسنا نحن أبناء الأجيال الأقدم، الذين نحب ونتزوج بنت الجيران، أو القريبة، أو الزميلة في الكلية، أو في الوظيفة، بالنسبة للخائبين الذي يجدون حبيبتهم بعد تقدم العمر، فلم تكن لدينا مصادر متاحة تتواجد فيها عروض العلاقات الغرامية فالزواج، كما هو اليوم.
5-  التدخين عند أبناء هذا الجيل ليس عيبا، بل يكاد أن يكون تدخين الناركيلة، والتي هي أكثر ضررا من السكائر، كما تقول التقارير الصحية العالمية، طقسا تشترك به الشابات مع الشباب في أماكن عامة، وأيضا من الممكن تدخينها أمام الأهل، أمام الأب والأم، عند الأجيال الأقدم من هذا الجيل، كان تدخين السيكارة محرجا لنا أمام الأهل، ونحن كبار العمر. هذه جرأة ستولد جرأة أكبر، وهي تناول الحبوب المخدرة والحشيش وباقي المخدرات، التي انتشرت في مجتمعنا العراقي المحافظ، بل وصل الأمر الى السماح لبيعها في الأكشاك في بعض الدول الأوربية، بعد أن كانت جريمة توقع بمرتكبها تحت طائلة القانون.
6-  أبناء هذا الجيل يحبون السينما، ويتابعون نجومها الذين لا نعرفهم نحن الأكبر منهم، وهم لا يعرفون نجومنا المفضلة، يحبون الأفلام الخيالية مثل (سيد الخواتم) و (هاري بوتر) وغيرها، وهم يفضلون صراع العروش (Game of thrones) على أي عمل عراقي نقوم بكتابته وإنتاجه، بل وأي عمل عربي أيضا، ذلك لأن الإبهار الصوري عندهم، أهم من الإبهار القصصي، والبعض الأخر الذي يهتم بالقصة، يشاهد أعمالا أخرى لم نسمع بها من قبل، مثل (بريكينك باد) وموضوعها طبعا، أستاذ في مادة الكيمياء يصنّع مادة الكريستال المخدرة، ويتاجر بها، ليعالج نفسه من مرض السرطان، هذا جيل إذا بحث عن الثقافة، فسيأخذها عبر الفن السينمائي، ولكن هذه الثقافة التي قد تولّد عند البعض منهم نزعة التمرد الشريرة، كما أصاب العديد منهم، هوس تقليد ضحكة (الجوكر) في الفلم الشهير، الذي كان يمثل أبناء هذا الجيل المعزول، والذي لم يجد بطله الجوكر غير الانتقام وسيلة للثأر، من هذا التهميش لأبناء هذا الجيل، فخرجوا من دور العرض وهم يقلدون ضحكته، وهذه إشارة الى المنظرين المهتمين بأمن المجتمعات، للحذر من أن نموذج الجوكر، فقد يتم تقليده في المجتمعات الهشة فكريا وثقافيا واجتماعيا، كمجتمعاتنا، ويصبح تقليعة يفخر بها الشباب.
7-  هذا الجيل لا يقرأ، الكتاب آخر همه، وإذا أراد أن يقرأ تجده يقرأ ما يكتبه أبناء جيله، هو لا يقرأ الأدب الكلاسيكي مثلا، وهو بهذا محق، فتلك آداب أفنينا أعمارنا بها، دون فائدة، فهي تتحدث عن مجتمعات لا تشبهنا أبدا، لكن المشكلة، أن النتاج الأدبي لهذا الجيل، بسيط وفقير، رغم صعود نجومية بعض الكتاب الشباب، إلا أنها نجومية سريعة الأفول، ليس بسبب ضآلة النتاج الأدبي حسب، بل لأن هذا الجيل، أصلا لا يخلد في رأسه نجم، فهذا عصر ظهور النجوم السريع، والسريع أفولهم.
8-  جيل يعشق كرة القدم، وبسبب الانفتاح الإلكتروني، بدأ بمتابعة الدوريات الدولية، كالدوري الإيطالي والإسباني والإنكليزي، وصار يحفظ أسماء نجوم الكرة الأجانب، ويتعنصر لهم، أكثر من تعنصره على نجوم منتخبه الوطني، ولنا في الهوس على ناديي برشلونه وريال مدريد، ونجميهما مسي ورونالدو خير مثال، فهم برشلونيين أكثر من البرشلونيين، وريالين أكثر من الرياليين، وسبب هذا خذلانهم أمام المنتخبات والنوادي العربي، نعم جيل يرفض الخذلان، وربما هذه حسنة له، وربما العكس، هذا مرهون بقادم الأيام.
هذا الجيل سيحكم العالم بعد عشرين سنة، وربما أقل، كيف سيكون مصير الحياة السياسية الدولية حينذاك؟ هذا إذا أبقى على سلامة المجتمعات الإنسانية اليوم.

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

هائم


قصة قصيرة
لحامد المالكي
أشم رائحة عفن أينما أذهب، رائحة تشبه رائحة جدار قديم في بيت مهجور منذ قرون، أو، تشبه رائحة برميل النفايات الذي يقبع ممتلئا، في رأس القطاع[1]، وأيضا، وعلى نحو مستَفَز، أنظر الى الشباب الذين يهربون من ساحة التحرير، باتجاه ساحة الطيران وهم مذعورين، عيونهم جاحظة، وفمهم يرعد بالسب بألفاظ جارحة، كانوا يسبون مبنيا للمجهول، عبارات أستحى أن أذكرها، لكن لا بأس، فلأول مرة أشعر بأني لم أعد أستحي من القيام بأي شيء، أبسطه التلفظ بالشتائم تلك، شتائم مثل: "كس أمهاتكم على هالدكة[2]" وأخرى: "ولد الكلب مناويج[3]" وأخرى وأخرى وأخرى، لكن، على من تطلق هذه الشتائم؟ ، لا أدري، كنت الوحيد الذي يقترب من ساحة التحرير بلا خوف، رغم أن الرصاص الحي، كان يمرّ من جواري، أسمع فحيح أفعى الموت التي تتلوى داخله، متوثبة للدخول في جسدي، بعد أن يحفر نحاس الرصاصة، نفقا لها، يمكّنها من الولوغ  في دمي، عليّ أن أحترس؟ لم؟ خوفا من الموت مثلا؟ أنا ميت منذ أن وعيت على هذه الدنيا، كنت أسمع الكبار يقولون: "هذه الأيام برغم بؤسها، أفضل من أيام حكم صدام حسين" ينتابني الفضول، هل يمكن أن يعيش إنسان في وقت أتعس مما نعيشه اليوم؟ كم كان الجيل الذي قبلنا جبانا إذن؟
كانت أمي تحثني على العمل بطريقة لطيفة، كنت أعرف أن راتب الرعاية الاجتماعية لا يكفي –أبي كان يعمل كهربائيا، وبينما كان يمسك بيده سلك كهرباء ذي الضغط العائلي، مطمئنا كون الوطنية مقطوعة، أقصد الكهرباء الوطنية، ولن تعود إلا بعد ساعتين، حدث خلل ما، جعلها تعود بسرعة، فصرعه السلك الكهربائي وقتله في مكانه- أعود لأمي المسكينة، عندما قلت عبارتي "تحثني على العمل بطريقة لطيفة" فأنا أقصدها تماما، ولا أجيد غيرها للتعبير عن كمية الأسى الذي يملؤها، مثل أي تطلب من ولدها أن يترك الدراسة ويذهب الى العمل، ماذا أعمل يا أمي؟ ، أنا لا أجيد إلا بعض الأعمال الكهربائية البسيطة التي تعلمتها من أبي رحمه الله، عندما كان يخرج للعمل ويأخذني معه؟ كانت تقول وهي تحرك كفها بسرعة وغضب، وبخبرة امرأة أدمنت الحزن، وفهمت لعبة القدر مبكرا، لا لا..... أنت لن تعمل في الكهرباء، تكفيني مصيبة واحدة، الحال هذه، عليّ أن أبحث عن عمل آخر، واتفقنا على أن يكون (العمّالة[4])، مهنة من لا مهنة له، وفعلا، وقفت عدة أيام في (مسطر) العمّالة وهو المكان الذي يجتمع فيه عمال البناء والخلفات، وهم قادة العمل، بانتظار رزقهم، فلم يحالفني الحظ بالحصول على العمل إلا مرتين حصلت على أجريهما، مجرد خمسين ألف دينار، صُرفت بعد أربعة أيام على الأكل فقط، أمي وأخوتي الثلاثة، أما أنا فقد كنت أتناول الفلافل في مطعم صديقي (جواد) الذي لم يكن يأخذ مني مقابلا ماليا لما اطلبه، لذا قررت أن أذهب الى المسطر الكبير في ساحة الطيران، لعي أجد فرصة عمل أفضل، وانتظرت منذ ساعات النهار الأولى ولم يأت من يكلفني بعمل، قلت لا باس، أنا جديد هنا ولا أحد يثق بالشيء الجديد أبدا، لعلي إذا عتّقني الانتظار هنا، سأفوز بفرصة عمل، جلست في مقهى العمال القريب من المسطر، هذه فرصة للتعرف عليهم، طلبت الشاي، بعد أن تأكدت أن ثمنه معي، وشرعت أتفحص الوجوه المتعبة للعمال والخلفات، الذين سحقهم التعب، في العمل تحت أشعة الشمس الحارقة، في بناء بيوت الأثرياء، فجأة، بدأ الشارع يثرثر، الشباب الذين خرجوا في اليوم الأول من تشرين، البارحة، يعاودون الخروج مرة ثانية، يهتفون بسقوط النظام، كانوا صغارا مثلي، وبطونهم ملتصقة بظهر الجوع، كانوا يشبهوني في كل بؤسي، لكنهم كانوا أشجع مني، لم لا أقفز مثلهم في الشارع، لعلّ النظام يلتفت الينا، نحن الذين يقولون علينا، أحباب الله، كي نرضى بفقرنا، قال خلفة مسن: "هذول[5] شبابنا مساكين، هو يا نظام يتغير، المناويج والمفاليس كَضّوا[6] بالسلطة والفلوس والگحاب، بعد يا هو الي ينطيها.
فار دمي، هذا رجل يائس، هذا من الجيل الذي خاف من صدام حسين، نحن لا نخاف، سأركض في الشارع باتجاه ساحة التحرير، وأهوس تحت هذا الجدار الأبيض الذي لا أعرف ما هو، يسمونه نصب الحرية، أي حرية؟ نحن أسرى الفقر، يشدّ أيدينا بحبال الذل، أمي، هؤلاء الشباب ليسوا بأحسن مني، وخرجت.
"لببيك يا حسين" كانت هذه أول ما هتفت به، سمعتها من شاب مرّ من جواري مثل الريح، باتجاه الحائط الأبيض، والى الجسر الذي يقابله، سمعت آخر يقول بصوت عال، نعبر الجسر ونسحل الهتلية[7] الحرامية، نريد فلوسنا ولد الگحاب، الحسين بريء منكم. أزددت حماسا، قلت ما قاله بطريقة مشابهة، ضربونا بقنابل دخانية ذات رائحة تشبه رائحة الفطائس، اختنقت، سعلت سعالا طويلا، نزفت عيني حريقا، التففنا على الدخان، واصلنا الركض، وصلنا الى الجدار الأبيض، كنّا مائة شاب، ربما مائتين، أنا لا أعرف الحساب، كانوا رجالا يرتدون الأسود، ويحملون البنادق، ويقفون على الجسر، وجوارهم سيارات سود عملاقة، بدأت بأطلاق مياه ساخنة سلخت جلودنا بهذا الجو الحار، صاح أحدنا، جبناااااااء، صحت مثله، جبناااااااء ثم همست لنفسي، ولد الگحبة، ثم هدأ كل شيء، أول مرة، أنقطع الصوت، هكذا فجأة، هل كان هذا بسبب القنابل الدخانية، التي أخذت تحرق عيوننا أول مرة، وتجعلنا نسعل حتى من فتحاتنا الخلفية؟ لكن، الآن الأمور أفضل، فقد توقف سعالي، لكني لم أعد أسمع هتافات الشباب كي أقول ما يقولونه، لا أعرف من أين يأتون بهذه الهتافات، كيف يسفطون كلماتها بهذه الطريقة، آخر هتاف سمعته يتردد كصدى غاضب: "بسم الدين باكونه الحرامية" كم هي جميلة وحقيقية، هؤلاء الذين كنّا نصلي خلفهم كالبلهاء، كانوا يغادرون الحسينية بسيارات آخر موديل، ونحن نمشي على القدمين، معتقدين داخل أنفسنا، إننا نسير الى الجنة، لا بيوتنا الملآنة فقرا وذهولا، أين ذهب الصوت من حولي، أرى وجوها غاضبة من الجهتين، منّا ومن الحراس، يمنعوننا من العبور الى المنطقة الخضراء[8]، لماذا؟ لا أدري، وكما فقدت القدرة على السماع، ها أنا أفقد القدرة على المشي أيضا، أنا أمشي بطريقة مختلفة عن الآخرين، أنا شبه طائر، ربما أربع أصابع تفصلني عن الأرض، طائف في هواء معفر بالدخان الحارق ورائحة البارود والعرق، قرب الرصيف الموازي للجدار الأبيض، هذا الذي يسمونه "الحرية" رأيت نفسي أرقد على بطني، والدم يخرج من راسي، وقوة ما، سحبتني وأدخلتني الى جسدي هذا بقوة، لمحت أبي يبتسم لي، لقطة خاطفة سريعة مرت من أمامي، كان يقف تحت الجدار الأبيض، وفوقه أمي معلقة على الجدار، تبكيني، ما الذي حصل؟ كنت أشرب الشاي في مقهى العمّالة، منتظرا فرصة للعمل، لا أكثر.
[1] - وحدة سكنية من وحدات مدينة الصدر (مدينة الثورة والرافدين ثم صدام سابقا) تتكون من ألف دار صغيرة مساحة الواحد منها 144 مترا
[2]- الواقعة.
[3] - مناويك، من فعل النيك.
[4] - بناء بيوت
[5] - هؤلاء
[6] مسكوا
[7] - مسبة عراقية لا معنى لها سوى انها تغضب من يوصف بها، ومفردها (هتلي)

الأربعاء، 10 أبريل 2019

(ماذا حصل في 9 نيسان وبعده) الجزء الثاني/ ظهور المهدي المنتظر

في اليوم العاشر من نيسان، وبعد يوم من اجتياح بغداد من قبل قوات التحالف الدولي، بقيادة أمريكا، للقضاء على صدام حسين، كان عليّ أن أجد طريقة للاتصال بأخي علي، المقيم في رومانيا، منذ منتصف التسعينات، كي أطمئنه على سلامة العائلة، بعد انتهاء حفلات القصف الجوي الماجنة، وكنت أعتقد أن الحرب برمتها قد توقفت، كنت واهما بالطبع، لم أكن أدري أنها حرب، ستفتح الأبواب لحروب جديدة، لا ندري متى تنتهي.
كيف أتصل بأخي علي وقد توقفت خدمة الاتصال خارج العراق، والتي كانت تتم عبر المفتاح 105 الذي يأخذ بيد اتصالك الى مسامع المخابرات العراقية، اليوم لا توجد مخابرات، وهذا شيء يدعو إلى الفرح، فلأول مرة، أشعر أني غير مراقب منذ أن جئت إلى هذه الدنيا، اختفت المخابرات وأختفى المفتاح 105 الذي عقّد العراقيين (سابقا) وهم يحاولون الحصول على خط مفتوح، للاتصال بأحبابهم خارج الوطن، لم يكن أمامي سوى الحصول على هاتف ثريا والذي هو عبر الأقمار الصناعية، تذكرت صديق عمري الأستاذ باسم جبار كلش الذي يعمل في قناة الجزيرة، فهو يمتلك هاتف ثريا بالتأكيد، ولأني أعرف أن كل البعثات الصحافية اتخذت من الفسحة التي بين فندق فلسطين مريديان وفندق عشتار شيراتون مكانا لها، تحتم عليّ التوجه إلى قلب بغداد عبر الوصول إلى كراج الباب الشرقي، ولكن كيف الوصول إلى هذا الباب؟ لا بد لي من وسيلة نقل، أرى الناس يتنقلون عبر الشاحنات الكبيرة (اللوري)، عليّ أن أتشبث بواحد منها متوجه إلى الباب الشرقي، وفعلا نجحت بتسلق أحدى الشاحنات، وكانت تعود إلى أمانة بغداد، لكن سائقها أستغلها للعمل بها لمصلحته الخاصة، لا أتذكر كم كانت الأجرة، لكني أتذكر أن ساقي كادت أن تلوى، وأنا أقفز إلى الأرض، سرت بخطوات عرجاء من الباب الشرقي إلى حيث الفندقين، كان الناس يسيرون سكارى وما هم بسكارى، الدهشة مرتسمة على وجوه الجميع، البعض كان منتشيا، والآخر كان حزينا، لا أخفي عليكم، كنت فرحا للغاية، ماذا أريد بعد؟ ها أنا ذا أسير وحدي دون عيون سرية تراقبني، أو انضباط عسكري (زنبور) يسأل عن أوراقي الشخصية، ليتأكد من أني لم أكن هاربا من الحرب، الحرب؟ أي حرب؟ لقد أنهزم الجيش والضباط والقادة والجنود، بل أن القائد العام للقوات المسلحة كان أول الهاربين، مودعا أهل الأعظمية، واقفا على غطاء محرك سيارة مدنية كان يتنقل بها متخفيا، وعائلته –كما عرفنا فيما بعد- هربت من يوم 6 نيسان إلى خارج القصر الجمهور، ثم خارج العراق فيما بعد، لقد كنت أقف أنا وصديق لي على حافة نهر دجلة من جهة الرصافة، نشاهد هروب حماية صدام من السياج الخلفي للقصر الجمهوري، بالملابس الداخلية باتجاه النهر، كان هذا بيوم السادس من نيسان، أي حرب؟ لم يبق في المدينة سوى سؤال بمحجم الكون كله، ماذا بعد هذا؟
بعد جهد قلق ومضطرب، قلق واضطراب الأرصفة التي تقلني، وصلت إلى الفندقين، كان الجيش الأمريكي يحيط بالساحة هو وأسلاكه الشائكة، مانعا دخول أي شخص، إلى خدر الصحفيين من كل دول العالم، حاولت أن أقنع أحد الجنود بضرورة توجهي إلى (خيمة) قناة الجزيرة، رفض، شاهدت مظاهرات تندد بالوجود الأميركي في البلاد، كانت أحداها يقودها ممثل مسرحي مغمور، كان كثيرا ما يتناول صدام حسين بالقدح والذم، وكان يشاع عنه أنه عنصر من عناصر المخابرات العراقية مدسوسا بين طبقة المثقفين، لذلك كنّا نحاذر الحديث أمامه في الأمور التي تتعلق بشتم الرئيس ونظامه، ها هو الآن يسير ويهتف بحماس بــ (أمريكا كو آوت) وأنا منذهل مما أرى، أخفيت وجهي عنه كي لا يراني فيُحرج، شاهدت الكثير ممن يتملق للجنود الأمريكان كي يدخل، وفعلا نجحوا بالدخول، لا زلت أتخيل أن من دخل في ذلك اليوم إلى الفندقين، حيث كان يتواجد أضافة إلى صحفيي العالم، عدد من جنرالات الحرب الأمريكان، قد حصل على منصب لقيادة العراق الجديد، أضافة إلى اللذين قدموا من خارج العراق بياقاتهم البيضاء وجيوبهم الجائعة التي سرقت العراق وأحلامنا.
نجحت في رؤية باسم كلش من بعيد، ناديته بعلو صوتي، جاءني راكضا: "ها حمودي... حمد الله على السلامة" عانقنا بعض، شرحت له سبب مجيئي، ناولني الهاتف الثريا بكرم، أتصلت بأخي علي في رومانيا مطمئنا قلبه المترع بالخوف، بعد ذلك انزوينا أنا وكلش وتخيلنا مستقبل العراق، كنت متفائلا على حذر، أما باسم فقد قال لي بوجه حزين: "سيبدأ مسلسل كاتم الصوت فأحذر" كانت نبوءة تحسب له، والى اليوم كاتم الصوت هو صاحب الصوت الأعلى في بلدي العراق.
بعد أن أنهيت لقائي بصديقي باسم كلش، تمشيت لمسافة قريبة حيث سينما النصر، والتي كانت تعرض فيها مسرحية (شفت بعيني محد كلي) بطولة صديق العمر الفنان الكوميدي (عبد الرحمن المرشدي) لعلي ألتقي بأعضاء الفرقة هناك للاطمئنان عليهم، وفعلا، وجدت الجميع هناك، فتباركنا لبعض سقوط الدكتاتور، وتحمدنا الله لسلامة الجميع، إلّا ممثلة شابة مسكينة، قتلها زوج أختها وكان (وهابي) التدين، بعد سقوط النظام مباشرة لأنه كان يمنعها من التمثيل في المسرح وهي تأبى إلا أن تمثل، فأستغل الفوضى التي رافقت دخول قوات التحالف وقتلها بدم بارد، حزنا لها، وتأثرنا كثيرا، ثم جاء شاب وسيم وأنيق، لا يبدو من مظهره أي أشاره تدل على اضطراب عقل، أو جنون مخفي، سلم علينا: "وعليكم السلام" أعدنا تحيته منتظرين سؤاله، قال: "هل أنتم تمثلون في المسرح؟" قلنا له: "نعم، أي خدمة؟" هنا تردد الرجل، تلفت إلى جميع الجهات كأنه يحذر أن يسمعه أحد، كنّا أنا والفنان عبد الرحمن المرشدي ومجموعة أخرى من الفنانين والفنانات ممن يمثلون في المسرحية، وهم معروفون في المجتمع العراقي، هنا أستجمع الشاب شجاعته وقال: "أنصحكم أن تتوبوا إلى الله وتتركوا التمثيل" سأله المرشدي: "ها خوية، ليش؟" قال: "لان هذا حرام". باغته المرشدي: "ومن أنت لتحلل وتحرم الأشياء بكيفك؟" قال الرجل بهدوء عجيب: "أنا المهدي المنتظر" أنفجر الجميع بالضحك إلا أنا، الذي سارعت باحتضانه، وقد لمته لتأخره عن الظهور كل هذه القرون، وقد مثلت دوري بإتقان، فكان أن أندهش الرجل، وأنسحب ببرود أيضا وهو يهزّ يده ساخرا منّا، ضحكنا كثيرا لندرة الموقف، عندما عدت إلى البيت ليلا، وأنا أسمع أخبار "الفرهود" المستمر منذ عدة أيام، تذكرت الرجل المتوهم بنفسه مهدي زمان الفوضى هذا، عندها أدركت أن الدين هو من سيحكم هذا البلد، فكان ما كان.



x

الثلاثاء، 9 أبريل 2019

(ماذا حصل في 9 نيسان وبعده) الجزء الأول


لم أفكر للحظة واحدة، بترك بيتي، وأخذ عائلتي والهروب منه، لكن الذي حصل، أن صدام أمر بتوزيع صواريخ سام المضادة للطائرات، بين البيوت السكنية، حتى لا تقوم الطائرات الأمريكية بقصفها، وإذا فعلتْ، فستكون جريمة حرب، سيستغلها إعلام صدام لصالحه، هكذا أستخدم صدام شعبه "كدروع بشرية" رغما عنه، وحدث أن توقف صاروخ طويل جدا، مقابل بيتنا الذي كان على الشارع العام، قالوا هذا صاروخ (سام) كان هذا ربما في اليوم الخامس من نيسان 2003، كان مع الصاروخ الذي تحمله عجلة عملاقة خاصة، عجلة أخرى تحمل الوقود، وثانية ربما التي تستعمل لتشغيله، وكان ضابط برتبة نقيب أو رائد على ما أذكر يقود القوة المرافقة للصاروخ، كان خائفا ومرتبكا، لأنه يعرف إذا أطلق صاروخه فانة لن يصيب الطائرات الأمريكية المتطورة، وأن الطيار سيعود ويضرب المكان الذي أنطلق منه الصاروخ، كان الصاروخ لا يبعد عن بيتنا سوى عشرة أمتار فقط، تمشيت إليه وسألته:
"خوية إذا أجتني طيارة أمريكية تضربها؟"
 أجابني بحذر:
"نعم، لدي أوامر بذلك"
قلت له:
"لكن هذا لا يفيد"
قال:
"أعرف ولكنها الأوامر".
شعرت بقلق كبير على أسرتي، بالمصادفة توقفت سيارة (واز) مدنية، وترجل منها صديق للعائلة –توفي قبل أيام رحمه الله- وكان من سكنة بعقوبة، وطلب منّا أن نرافقه إلى منزل قريبٍ له، يسكن في بعقوبة، لنختبئ هناك، شعرت بخوف كبير على مصير سيء يهدد العائلة، حملت عائلتي وتوجهت إلى بعقوبة، بقيت أمي رحمها الله وأخي صفاء في البيت.
في بعقوبة سكنّتُ عند أسرة لا أعرفها، كانت المدينة الجميلة تعج بأهل بغداد من الهاربين مثلي من شبح الحرب القاتل، أذكر أني في اليوم التالي زرت صديقي الكاتب الفيلسوف والروائي التائه، خضير ميري رحمه الله، للاطمئنان عليه، وكان يسكن في قرية صغيرة على طريق الخالص عند بيت شقيقه، وقد وصلت إليه بشق الأنفس بسبب ندرة وسائل المواصلات، وقضيت معه نهارا قلقا، فخضير كائن من قلق وجنون معلّب بالعقل، عدت إلى البيت، البيت الكريم الذي لا أعرف صاحبه، والذي كان وزوجته مع أسرتي، في منتهى الكرم العراقي الأصيل.
في ليلة الثامن من نيسان كنت أراقب قناة العالم الإيرانية، وكانت هذه الوحيدة التي يستطيع هوائي التلفزيون التقاطها، كان مذيع النشرة اسمه (فؤاد) على ما أذكر وأعتقد فلسطيني الجنسية، في غاية الحزن والتأثر وهو ينقل التفاصيل الأخيرة لاجتياح بغداد، يومها التقى بالنائب اليوم، المعارض سابقا، السيد فائق الشيخ علي، والذي كان ربما في الكويت، وقال له فائق: "لماذا أنت حزين؟ بيتنا ونلعب بيه شلها غرض بينا الناس؟".
في نهار اليوم التالي سقط التمثال في ساحة الفردوس، خرجت إلى الشارع أبحث عن سيارة تقلني وعائلتي إلى بغداد، كنت في غاية الشوق والخوف والفرح والترقب، مشاعر تتضارب فيما بينها، توجع القلب والروح، كنت خائفا على أمي وأخي، ليست هنالك من وسيلة للاتصال بهما لتأكيد سلامتهما من "الموت بالصدفة" الذي يرافق حرب المدن، كان الشارع ضاجا باللصوص الذين يحملون المسروقات من دوائر الدولة في شاحنات وكان الأهالي من مدينة بعقوبة يرجمون أرتال اللصوص بالحجارة، مشهد لا أنساه أبدا، بعد قليل، جاءت سيارة الــ (واز) الروسية العتيقة، يقودها فاضل، رحمه الله فأعادنا إلى بغداد، في الطريق، شاهدت قوات المارينز تملأ الشوارع وتقاطعات الطرق، كان منظرهم أول مرة "قبل اعتياد رؤيتهم" وكأنهم هبطوا من الفضاء، كانت هكذا توحي أزياءهم، كذلك الحذر البائن في عيونهم وهم يشهرون البنادق بوجه الناس.
وصلت إلى البيت، وعرفت أن الضابط المسكين، الموكل بمهمة أطلاق صاروخ (سام)، قد أطلق الصاروخ، وأن البيوت القريبة منه، ومنها بيتنا، اهتزت كما لو أن القيامة قامت فيها، فما كان من أخي صفاء سوى أن يأخذ أمي بسيارته ويهرب بها لمسافة واحد كيلو متر، خوفا من رد فعل الطيار الأمريكي، الذي بالتأكيد لم يصبه الصاروخ، والذي حامَ حول منصة الصاروخ عدة مرات، والله هداه، فلم يقصف المنصة، وعرفت أن أهل المنطقة ضربوا الضابط وأعتدوا عليه حتى أنه بكى ثم هرب ومن معه.
عرفت عند عودتي أن الزميل السيناريست علي صبري، كاتب المسلسل العراقي الشهير (مناوي باشا) قد جاء إلى بيتي وقضى يوما فيه مع أخي صفاء قبل سفره إلى أهله في البصرة، فقد كان يسكن شقق الصالحة التي كانت مهددة بالقصف.
ليلا جلست عند باب البيت أنظر إلى الشارع الفارغ إلا من اللصوص الذين افترسوا مشروعا عمرانيا قريبا من داري وبدأوا بسرقة أطنان الحديد التي فيه، كذلك مرور لصوص صغار يحملون الكراسي والطاولات من الدوائر القريبة من بيتي، كنت سعيدا لهزيمة نظام دكتاتوري، لكني لم أعرف أن الثمن سيكون قاسيا لهذه الدرجة، إلا عندما قرأت بعد أيام ما حصل لألمانيا بعد هزيمة هتلر ولليابان بعد كارثتي هيروشيما وناكا زاكي، كذلك في يوغسلافيا والبوسنة والهرسك وحتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فأدركت أن ما بعد هزيمة الدكتاتور، تدفع الشعوب ثمنا باهضا لكن إلى حين، بعدها يحصل الاستقرار ويخرج جيل لا يتذكر من الماضي سوى هوامشا نرويها نحن في كتاباتنا، يأخذ منها العبر، ليبني على أنقاضنا، وطنا حرا وآمنا.
الآن، هل ولد هذا الجيل في العراق اليوم؟
أقول... ليس بعد.
سلامة يا وطن، سلامة يا شعب العراق الغائر في الضيم والحزن الأبدي، لا زال طريق الحرية طويلا ولكني أرى أفقه البعيد.


  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...