الأربعاء، 10 أبريل 2019

(ماذا حصل في 9 نيسان وبعده) الجزء الثاني/ ظهور المهدي المنتظر

في اليوم العاشر من نيسان، وبعد يوم من اجتياح بغداد من قبل قوات التحالف الدولي، بقيادة أمريكا، للقضاء على صدام حسين، كان عليّ أن أجد طريقة للاتصال بأخي علي، المقيم في رومانيا، منذ منتصف التسعينات، كي أطمئنه على سلامة العائلة، بعد انتهاء حفلات القصف الجوي الماجنة، وكنت أعتقد أن الحرب برمتها قد توقفت، كنت واهما بالطبع، لم أكن أدري أنها حرب، ستفتح الأبواب لحروب جديدة، لا ندري متى تنتهي.
كيف أتصل بأخي علي وقد توقفت خدمة الاتصال خارج العراق، والتي كانت تتم عبر المفتاح 105 الذي يأخذ بيد اتصالك الى مسامع المخابرات العراقية، اليوم لا توجد مخابرات، وهذا شيء يدعو إلى الفرح، فلأول مرة، أشعر أني غير مراقب منذ أن جئت إلى هذه الدنيا، اختفت المخابرات وأختفى المفتاح 105 الذي عقّد العراقيين (سابقا) وهم يحاولون الحصول على خط مفتوح، للاتصال بأحبابهم خارج الوطن، لم يكن أمامي سوى الحصول على هاتف ثريا والذي هو عبر الأقمار الصناعية، تذكرت صديق عمري الأستاذ باسم جبار كلش الذي يعمل في قناة الجزيرة، فهو يمتلك هاتف ثريا بالتأكيد، ولأني أعرف أن كل البعثات الصحافية اتخذت من الفسحة التي بين فندق فلسطين مريديان وفندق عشتار شيراتون مكانا لها، تحتم عليّ التوجه إلى قلب بغداد عبر الوصول إلى كراج الباب الشرقي، ولكن كيف الوصول إلى هذا الباب؟ لا بد لي من وسيلة نقل، أرى الناس يتنقلون عبر الشاحنات الكبيرة (اللوري)، عليّ أن أتشبث بواحد منها متوجه إلى الباب الشرقي، وفعلا نجحت بتسلق أحدى الشاحنات، وكانت تعود إلى أمانة بغداد، لكن سائقها أستغلها للعمل بها لمصلحته الخاصة، لا أتذكر كم كانت الأجرة، لكني أتذكر أن ساقي كادت أن تلوى، وأنا أقفز إلى الأرض، سرت بخطوات عرجاء من الباب الشرقي إلى حيث الفندقين، كان الناس يسيرون سكارى وما هم بسكارى، الدهشة مرتسمة على وجوه الجميع، البعض كان منتشيا، والآخر كان حزينا، لا أخفي عليكم، كنت فرحا للغاية، ماذا أريد بعد؟ ها أنا ذا أسير وحدي دون عيون سرية تراقبني، أو انضباط عسكري (زنبور) يسأل عن أوراقي الشخصية، ليتأكد من أني لم أكن هاربا من الحرب، الحرب؟ أي حرب؟ لقد أنهزم الجيش والضباط والقادة والجنود، بل أن القائد العام للقوات المسلحة كان أول الهاربين، مودعا أهل الأعظمية، واقفا على غطاء محرك سيارة مدنية كان يتنقل بها متخفيا، وعائلته –كما عرفنا فيما بعد- هربت من يوم 6 نيسان إلى خارج القصر الجمهور، ثم خارج العراق فيما بعد، لقد كنت أقف أنا وصديق لي على حافة نهر دجلة من جهة الرصافة، نشاهد هروب حماية صدام من السياج الخلفي للقصر الجمهوري، بالملابس الداخلية باتجاه النهر، كان هذا بيوم السادس من نيسان، أي حرب؟ لم يبق في المدينة سوى سؤال بمحجم الكون كله، ماذا بعد هذا؟
بعد جهد قلق ومضطرب، قلق واضطراب الأرصفة التي تقلني، وصلت إلى الفندقين، كان الجيش الأمريكي يحيط بالساحة هو وأسلاكه الشائكة، مانعا دخول أي شخص، إلى خدر الصحفيين من كل دول العالم، حاولت أن أقنع أحد الجنود بضرورة توجهي إلى (خيمة) قناة الجزيرة، رفض، شاهدت مظاهرات تندد بالوجود الأميركي في البلاد، كانت أحداها يقودها ممثل مسرحي مغمور، كان كثيرا ما يتناول صدام حسين بالقدح والذم، وكان يشاع عنه أنه عنصر من عناصر المخابرات العراقية مدسوسا بين طبقة المثقفين، لذلك كنّا نحاذر الحديث أمامه في الأمور التي تتعلق بشتم الرئيس ونظامه، ها هو الآن يسير ويهتف بحماس بــ (أمريكا كو آوت) وأنا منذهل مما أرى، أخفيت وجهي عنه كي لا يراني فيُحرج، شاهدت الكثير ممن يتملق للجنود الأمريكان كي يدخل، وفعلا نجحوا بالدخول، لا زلت أتخيل أن من دخل في ذلك اليوم إلى الفندقين، حيث كان يتواجد أضافة إلى صحفيي العالم، عدد من جنرالات الحرب الأمريكان، قد حصل على منصب لقيادة العراق الجديد، أضافة إلى اللذين قدموا من خارج العراق بياقاتهم البيضاء وجيوبهم الجائعة التي سرقت العراق وأحلامنا.
نجحت في رؤية باسم كلش من بعيد، ناديته بعلو صوتي، جاءني راكضا: "ها حمودي... حمد الله على السلامة" عانقنا بعض، شرحت له سبب مجيئي، ناولني الهاتف الثريا بكرم، أتصلت بأخي علي في رومانيا مطمئنا قلبه المترع بالخوف، بعد ذلك انزوينا أنا وكلش وتخيلنا مستقبل العراق، كنت متفائلا على حذر، أما باسم فقد قال لي بوجه حزين: "سيبدأ مسلسل كاتم الصوت فأحذر" كانت نبوءة تحسب له، والى اليوم كاتم الصوت هو صاحب الصوت الأعلى في بلدي العراق.
بعد أن أنهيت لقائي بصديقي باسم كلش، تمشيت لمسافة قريبة حيث سينما النصر، والتي كانت تعرض فيها مسرحية (شفت بعيني محد كلي) بطولة صديق العمر الفنان الكوميدي (عبد الرحمن المرشدي) لعلي ألتقي بأعضاء الفرقة هناك للاطمئنان عليهم، وفعلا، وجدت الجميع هناك، فتباركنا لبعض سقوط الدكتاتور، وتحمدنا الله لسلامة الجميع، إلّا ممثلة شابة مسكينة، قتلها زوج أختها وكان (وهابي) التدين، بعد سقوط النظام مباشرة لأنه كان يمنعها من التمثيل في المسرح وهي تأبى إلا أن تمثل، فأستغل الفوضى التي رافقت دخول قوات التحالف وقتلها بدم بارد، حزنا لها، وتأثرنا كثيرا، ثم جاء شاب وسيم وأنيق، لا يبدو من مظهره أي أشاره تدل على اضطراب عقل، أو جنون مخفي، سلم علينا: "وعليكم السلام" أعدنا تحيته منتظرين سؤاله، قال: "هل أنتم تمثلون في المسرح؟" قلنا له: "نعم، أي خدمة؟" هنا تردد الرجل، تلفت إلى جميع الجهات كأنه يحذر أن يسمعه أحد، كنّا أنا والفنان عبد الرحمن المرشدي ومجموعة أخرى من الفنانين والفنانات ممن يمثلون في المسرحية، وهم معروفون في المجتمع العراقي، هنا أستجمع الشاب شجاعته وقال: "أنصحكم أن تتوبوا إلى الله وتتركوا التمثيل" سأله المرشدي: "ها خوية، ليش؟" قال: "لان هذا حرام". باغته المرشدي: "ومن أنت لتحلل وتحرم الأشياء بكيفك؟" قال الرجل بهدوء عجيب: "أنا المهدي المنتظر" أنفجر الجميع بالضحك إلا أنا، الذي سارعت باحتضانه، وقد لمته لتأخره عن الظهور كل هذه القرون، وقد مثلت دوري بإتقان، فكان أن أندهش الرجل، وأنسحب ببرود أيضا وهو يهزّ يده ساخرا منّا، ضحكنا كثيرا لندرة الموقف، عندما عدت إلى البيت ليلا، وأنا أسمع أخبار "الفرهود" المستمر منذ عدة أيام، تذكرت الرجل المتوهم بنفسه مهدي زمان الفوضى هذا، عندها أدركت أن الدين هو من سيحكم هذا البلد، فكان ما كان.



x

هناك 5 تعليقات:

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف

  2. الجزء الثاني ممتع للغاية وبالاخص تقمصك لدور ال(المصدگ الجذبه)
    احداث
    روعة

    ردحذف
  3. مبدع يا اخي احبك واحب كتابتك

    ردحذف
  4. كل ما ذكرته استاذ حامد ..اعجبني وقبلته..فقط اعترض على الخاتمة...(الدين سوف يحكمنا)....فمن يحكمنا الان هو (الدجل والكذب والكفر)..لو حكمنا الدين لفتح الله تعالى لنا ابواب السموات والارض ولعم الخير...واما ما حكمنا فهو نفس ذلك الممثل المغمور الذي كان وكيل للمخابرات ..الان ايضا يحكموننا وكلاء للمخابرات.

    ردحذف

  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...