الثلاثاء، 9 أبريل 2019

(ماذا حصل في 9 نيسان وبعده) الجزء الأول


لم أفكر للحظة واحدة، بترك بيتي، وأخذ عائلتي والهروب منه، لكن الذي حصل، أن صدام أمر بتوزيع صواريخ سام المضادة للطائرات، بين البيوت السكنية، حتى لا تقوم الطائرات الأمريكية بقصفها، وإذا فعلتْ، فستكون جريمة حرب، سيستغلها إعلام صدام لصالحه، هكذا أستخدم صدام شعبه "كدروع بشرية" رغما عنه، وحدث أن توقف صاروخ طويل جدا، مقابل بيتنا الذي كان على الشارع العام، قالوا هذا صاروخ (سام) كان هذا ربما في اليوم الخامس من نيسان 2003، كان مع الصاروخ الذي تحمله عجلة عملاقة خاصة، عجلة أخرى تحمل الوقود، وثانية ربما التي تستعمل لتشغيله، وكان ضابط برتبة نقيب أو رائد على ما أذكر يقود القوة المرافقة للصاروخ، كان خائفا ومرتبكا، لأنه يعرف إذا أطلق صاروخه فانة لن يصيب الطائرات الأمريكية المتطورة، وأن الطيار سيعود ويضرب المكان الذي أنطلق منه الصاروخ، كان الصاروخ لا يبعد عن بيتنا سوى عشرة أمتار فقط، تمشيت إليه وسألته:
"خوية إذا أجتني طيارة أمريكية تضربها؟"
 أجابني بحذر:
"نعم، لدي أوامر بذلك"
قلت له:
"لكن هذا لا يفيد"
قال:
"أعرف ولكنها الأوامر".
شعرت بقلق كبير على أسرتي، بالمصادفة توقفت سيارة (واز) مدنية، وترجل منها صديق للعائلة –توفي قبل أيام رحمه الله- وكان من سكنة بعقوبة، وطلب منّا أن نرافقه إلى منزل قريبٍ له، يسكن في بعقوبة، لنختبئ هناك، شعرت بخوف كبير على مصير سيء يهدد العائلة، حملت عائلتي وتوجهت إلى بعقوبة، بقيت أمي رحمها الله وأخي صفاء في البيت.
في بعقوبة سكنّتُ عند أسرة لا أعرفها، كانت المدينة الجميلة تعج بأهل بغداد من الهاربين مثلي من شبح الحرب القاتل، أذكر أني في اليوم التالي زرت صديقي الكاتب الفيلسوف والروائي التائه، خضير ميري رحمه الله، للاطمئنان عليه، وكان يسكن في قرية صغيرة على طريق الخالص عند بيت شقيقه، وقد وصلت إليه بشق الأنفس بسبب ندرة وسائل المواصلات، وقضيت معه نهارا قلقا، فخضير كائن من قلق وجنون معلّب بالعقل، عدت إلى البيت، البيت الكريم الذي لا أعرف صاحبه، والذي كان وزوجته مع أسرتي، في منتهى الكرم العراقي الأصيل.
في ليلة الثامن من نيسان كنت أراقب قناة العالم الإيرانية، وكانت هذه الوحيدة التي يستطيع هوائي التلفزيون التقاطها، كان مذيع النشرة اسمه (فؤاد) على ما أذكر وأعتقد فلسطيني الجنسية، في غاية الحزن والتأثر وهو ينقل التفاصيل الأخيرة لاجتياح بغداد، يومها التقى بالنائب اليوم، المعارض سابقا، السيد فائق الشيخ علي، والذي كان ربما في الكويت، وقال له فائق: "لماذا أنت حزين؟ بيتنا ونلعب بيه شلها غرض بينا الناس؟".
في نهار اليوم التالي سقط التمثال في ساحة الفردوس، خرجت إلى الشارع أبحث عن سيارة تقلني وعائلتي إلى بغداد، كنت في غاية الشوق والخوف والفرح والترقب، مشاعر تتضارب فيما بينها، توجع القلب والروح، كنت خائفا على أمي وأخي، ليست هنالك من وسيلة للاتصال بهما لتأكيد سلامتهما من "الموت بالصدفة" الذي يرافق حرب المدن، كان الشارع ضاجا باللصوص الذين يحملون المسروقات من دوائر الدولة في شاحنات وكان الأهالي من مدينة بعقوبة يرجمون أرتال اللصوص بالحجارة، مشهد لا أنساه أبدا، بعد قليل، جاءت سيارة الــ (واز) الروسية العتيقة، يقودها فاضل، رحمه الله فأعادنا إلى بغداد، في الطريق، شاهدت قوات المارينز تملأ الشوارع وتقاطعات الطرق، كان منظرهم أول مرة "قبل اعتياد رؤيتهم" وكأنهم هبطوا من الفضاء، كانت هكذا توحي أزياءهم، كذلك الحذر البائن في عيونهم وهم يشهرون البنادق بوجه الناس.
وصلت إلى البيت، وعرفت أن الضابط المسكين، الموكل بمهمة أطلاق صاروخ (سام)، قد أطلق الصاروخ، وأن البيوت القريبة منه، ومنها بيتنا، اهتزت كما لو أن القيامة قامت فيها، فما كان من أخي صفاء سوى أن يأخذ أمي بسيارته ويهرب بها لمسافة واحد كيلو متر، خوفا من رد فعل الطيار الأمريكي، الذي بالتأكيد لم يصبه الصاروخ، والذي حامَ حول منصة الصاروخ عدة مرات، والله هداه، فلم يقصف المنصة، وعرفت أن أهل المنطقة ضربوا الضابط وأعتدوا عليه حتى أنه بكى ثم هرب ومن معه.
عرفت عند عودتي أن الزميل السيناريست علي صبري، كاتب المسلسل العراقي الشهير (مناوي باشا) قد جاء إلى بيتي وقضى يوما فيه مع أخي صفاء قبل سفره إلى أهله في البصرة، فقد كان يسكن شقق الصالحة التي كانت مهددة بالقصف.
ليلا جلست عند باب البيت أنظر إلى الشارع الفارغ إلا من اللصوص الذين افترسوا مشروعا عمرانيا قريبا من داري وبدأوا بسرقة أطنان الحديد التي فيه، كذلك مرور لصوص صغار يحملون الكراسي والطاولات من الدوائر القريبة من بيتي، كنت سعيدا لهزيمة نظام دكتاتوري، لكني لم أعرف أن الثمن سيكون قاسيا لهذه الدرجة، إلا عندما قرأت بعد أيام ما حصل لألمانيا بعد هزيمة هتلر ولليابان بعد كارثتي هيروشيما وناكا زاكي، كذلك في يوغسلافيا والبوسنة والهرسك وحتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فأدركت أن ما بعد هزيمة الدكتاتور، تدفع الشعوب ثمنا باهضا لكن إلى حين، بعدها يحصل الاستقرار ويخرج جيل لا يتذكر من الماضي سوى هوامشا نرويها نحن في كتاباتنا، يأخذ منها العبر، ليبني على أنقاضنا، وطنا حرا وآمنا.
الآن، هل ولد هذا الجيل في العراق اليوم؟
أقول... ليس بعد.
سلامة يا وطن، سلامة يا شعب العراق الغائر في الضيم والحزن الأبدي، لا زال طريق الحرية طويلا ولكني أرى أفقه البعيد.


هناك 12 تعليقًا:

  1. ولذلك عليك ان تاتي الى بعقوبة التي تعافت الان من ارهاب القاعدة

    ردحذف
  2. رائع كالعادة استاذ حامد

    ردحذف
  3. اجمل ما قراءة احسنت

    ردحذف
  4. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  5. استاذ حامد
    هذه وثيقة مهمة
    ستضاف وتؤرخ الى سطور مسيرتك الثقافية الانسانية الحافلة بالنجاح والابداع والمواقف الشجاعة

    ردحذف
  6. ليش ما رحت البصره القرنه مدينتك

    ردحذف
  7. دوما متألق ومبدع وفنان رائع

    ردحذف

  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...