الاثنين، 12 سبتمبر 2011

مسلسل الدهانة, وملك الشاشة العراقية

بقلم: بلقيس حميد حسن - (صوت العراق) - 11-09-2011

قد أكون في الكثير من المقالات متشائمة بشأن مستقبل العراق كمجتمع وتنمية بشرية, ولأنني مؤمنة بأن التفاؤل لابد وأن يستند على أساس- ولو بسيط - من الايجابيات الحقيقية, لتـُغرس في الرؤوس رؤية مفرحة ندعوها تفاؤلا, فصرت أبحث عن أمل في الحياة العراقية يدعوني للتفاؤل.
 www.balkishassan.com

الأمل الذي اسعدني, كان بعض المسلسلات العراقية التي قفزت بالدراما العراقية نحو الأفضل وبشكل لافت للنظر. وكعادتي لا أكتب عن الأعمال إلا من خلال ارتباطها بحقوق الانسان, وهو مايعنيني بالدرجة الاولى.
من هذه المسلسلات أتناول هنا مسلسل "الدهانة" الذي تابعته قبل رمضان على قناة البغدادية, لقد استطاع المسلسل نقل الواقع العراقي بشكل موضوعي وبلا انحياز وتعصب, وهذا دليل صحي في الثقافة العراقية عامة, يدعونا لان نبارك ذلك التوجه الذي كان أحد أسباب نجاح المسلسل الحاوي على أغلب شروط النجاح. فمسلسل الدهانة الذي سحرنا كمشاهدين, سرد حقبة زمنية مسكوتا عنها, كانت مليئة بمعاناة المعارضين لسلطة البعث, كما طرح واقعا معاشيا مؤلما للطبقات الفقيرة والمهمشة بمقابل حياة المترفين الذين يستطيعون شراء ما لا يـُشترى عن طريق السلطة والمال الذي يملكون. لقد لعبت الفنانة المبدعة "زهور علاء دور"وصال" الفتاة الجميلة, الصادقة, الفقيرة, والمغلوب على أمرها بحكم المجتمع الذكوري القاسي. وكانت شخصية "وجيه" التي جسدها النجم الفذ "كاظم القريشي", من أجمل الشخصيات التي عرفتها الدراما العراقية على الاطلاق, وليسامحني بقية الفنانين الذين ابدعوا في المسلسل, حيث أحتفي هنا بالفنان القريشي, الذي اصبح اليوم ظاهرة فنية عراقية كنا بحاجة لها منذ زمن, فنحن - مع الاسف - لا نحتفي بالقدرات الخلاقة, كألاخوة المصريين مثلا الذين أطلقوا على رشدي اباضة "دون جوان الشاشة العربية", بسبب من كونه شخصية ساحرة, وعلى كمال الشناوي"فتى الشاشة المصرية", وغيرها من الألقاب التي تـُفرح أي فنان, فهل كان ذلك عيبا؟
وان أردنا للمجتمع العراقي أن يهتم بالقيم الجمالية ليكون أحلى, فلنحتفي بمبدع في هذا الزمن الصعب, هو"الفنان القريشي" وندعوه ملك الشاشة العراقية, ولنضعه أمام مسؤولية كبيرة ليتألق أكثر, خاصة انه يمتلك حضورا طاغيا, بوجه جمع الحزن بالفرح, فبرغم مسحة الحزن الواضحة عليه, نجده حين يبتسم تشرق النجوم بين عينيه وتتطاير الفراشات البيضاء.
عجبا! وكأن ذلك الوجه الحزين ليس له.
تقاطيع وجه الفنان "القريشي" هبة طبيعية, تمنحه قدرة هائلة على التعبير عن كل دور يلعبه, وكأنه ملامح العراق وتناقضاته, بنخيله وصحاريه, بتضاريسه وانهاره, بشموسه ومناخاته وشموخ الحضارات الاولى. نلمس في حزنه كل بكائيات العراق. فيه الوفاء والغياب, الحنين والحزم, وفيه التوحد والتشظي. انه نجم بألق لا يضاهى, بصوت عميق, هاديء ورخيم, قادر على تغيير نبراته بطريقة تؤثر بالمتلقي وتخترق دواخله بسرعة البرق. لقد جسد هذا الفنان بتلقائية وجدارة منقطعة النظير دور"وجيه", تلك الشخصية المثقفة, الطيبة, النبيلة, المنفتحة, حاملة هموم الناس, الرافضة للظلم, تلك الشخصية التي تربينا على ان نتحلى بمواصفاتها ونسعى لنكونها, كما سعى لها وحاول تمثلها أشراف الناس, وأبرز الشخصيات الاجتماعية والوطنية, وحاملو المباديء الخيـّرة في ما قبل الخراب البعثي. انها شخصية الكثير ممن استشهدوا في السجون تحت التعذيب, أو في كواتم الصوت كما استشهد وجيه وضاعت حياته ودمه بين فكرة المعارضة للنظام, والثأر, أو صعود الطفيليين الجدد انذاك والذين استعملتهم السلطة كسلاح من اسلحتها المسلطة على رقاب من يخالفها. حقيقة تاريخية لا ينكرها أي انسان يعتد بضميره ووقوفه مع الحق, فوجيه هو الشخصية العراقية المتألمة التي واجهت الجور قبل كل الناس, هي المذبوحة في كل المناسبات السياسية, وهي المهمشة, والمهاجرة, والمنتحرة خارج الوطن يأسا وحبا للعراق وأهله. انها تمثل آلاف الأسماء التي نعرفها والتي رحلت بصمت بأحد أسباب الموت المتنوعة زمن البعث وجلاوزته, انها كل الشخصيات التي طوردت, وحوربت بمحاولة افراغ العراق منها, كي يبقى العراق للمجرمين والقتلة من الانتهازيين والمتلونين والمنتفعين اللاهثين وراء الكراسي والشهادات المزورة, والضاحكين على الذقون بمسبحة وخاتم وعمامة, ولينتهي العراق حينما ينتهي انسانه ُ الأفضل, والأهم بقدرته على العطاء.
"وجيه" واحد من الشخصيات التي يحق للعراقيين البكاء عليهم دماً لا دمعاً فقط, فهو من العراقيين الاصلاء الذين لم يأخذوا أي شيء, والذين ضحوا بكل شيء. انهم حاملو لواء النزاهة والأخلاق في كل زمن, اليساريون, والمستقلون, واصحاب المباديء الانسانية النبيلة والأبرياء المؤمنون بالحق, هؤلاء هم المقتولون أمام أعين الناس جهارا نهارا, انهم المدفونون بلا ذنب, وهم المتهمون بلا جريمة حيث امتلأت بهم السجون والمعتقلات, وهم الثور الأبيض الذي أُُ ُكـِل َ أولا, حيث صمت َ الجميع على سرقته وذبحه, فتطاول سيف القتلة على سواه, حتى اتسعت المقابر الجماعية, وقـُضي َ الأمر, فاذا بالعراق بلد الأيتام, والثكالى, والمعوقين, والمهجرين, والشحادين, وأطفال الشوارع, والداعرات ,والفاسدين من الحرامية, والمزورين, والمتاجرين بالأعضاء البشرية الحيـّة.
وفي هذه الوقفة القصيرة لي مع أول مسلسل عراقي كشف حقائق بقيت مدفونة مع ضحاياها زمنا, أحيـّي كاتب المسلسل المبدع حامد المالكي, والمخرج المميز علي أبو سيف وجميع الفنانين الرائعين الذين ساهموا بانجاح المسلسل.
أخيرا, فرحي بوجود نجم عراقي بمواصفات الفنان القريشي يجعلني اخاف عليه كقيمة جميلة في العراق, أحييه وأهمس في أذنه ليحذر الحساد والمتصيدين بالماء العكر, فبعد التركة الثقيلة من المصائب التي مرت على الشعب العراقي, آسفة اقول:
لقد اصبح التميـّز في العراق جريمة عند الكثيرين, والجمال عندهم جريمة تدعو للتهميش, والابداع صفة مدعاة للتآمر عليها, وحتى التضحية والزهد في العراق يـُحسد المرء عليهما... اتمنى أن أكون مخطئة فيما أقول, كي أستطيع شطب بعض تجارب الحياة من ذاكرتي, وأغيـّر اقوالي.
قد تكون لي وقفة لاحقة مع مسلسل "أبو طبر" الذي سمـّرنا على الشاشة الصغيرة, مع تمنياتي لجميع الفنانين العراقيين بالمزيد من التألق والنجاح..
8-9-2011.

هناك تعليق واحد:

  1. حامد المالكي12 سبتمبر 2011 في 6:58 م

    بعد ثلاث سنوات على انتاجه مسلسل الدهانة يعود لساحة النقد والاستعراض

    ردحذف

  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...