الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

حامد المالكي والحوارية المثيرة بين أبي طبر والعميد زهير( المجرم والشرطي)

نقلا عن موقع الحوار المتمدن


 
اللامع الكاتب والسيناريست حامد المالكي في كل دراماته التي تطل علينا بين الفينة والاخرى , يجعلنا نبحث عن الالغاز , لكنها الالغاز التي تعطي انطباعا واضحا عن الحلول , الحلول التي يستشفها المشاهد ويفك شفراتها البسيطة او المقعدة , وهذا النوع من الفن , كثيرا ما نجده لدى الكاتب المسرحي بريخت , كما وان الكاتب حامد المالكي قد استعان باللمسات البسيطة للقص المرعب الذي يحتاج بدوره الى نوع من لمسات هيتشكوك في الاخراج ,
 وقد كانت في غاية الاهمية كي تتناسب مع اسم المسلسل أبو طبر الذي تناول بداية الحقبة الزمنية لمجئ البعث المجرم , بكل جلاديه من ناظم كزار الى البكر الى صدام حسين وجلاوزتهم, الذين ادخلونا في المتاهات والدمار والقتل المستمر حتى اليوم . حامد المالكي من الكتاب الذين يهمهم ارضاء ذوق الجمهور, يكتب دائما عن الهم الانساني العراقي , وكأنه متخصص بجرائم البعث , المسلسل علامة مضيئة في عالم السينما العراقية كفن وصناعة , اضافة الى الصياغة الدرامية الرائعة , والشخصيات التي أختيرت من قبل المخرج قد رسمت بشكل يتناسب مع هوياتها وخصوصا مع الممثل الشاب اللامع ( حسين عجاج) الذي اتهم بكونه ابو طبر وقد تعذب على ايدي الجلاوزة ايما تعذيب , كما وانّ المخرج أصاغ الحوار بين الشخصين( أبو طبر... العميد زهير) بشكل يعتمد على التلقائية والاعجاز مع القليل من السهل الممتنع , أما الكاتب فقد رسم لنا الصورة الدقيقة للسلوك الاجتماعي للضباط الغير مهنيين والذين وضِعوا في الاماكن الغير مناسبة لهم , لكونهم بعثيين مجرمين .
الكاتب أوحى لنا أنّ زوجة أبي طبر ( حاتم) إسمها ساجــدة , وزوجة المجرم صدام حسين ايظا اسمها ساجـدة , والمرأتان قبيحتان في الشكل , والمرأتان كانتا مكروهتان من قبل ازواجهن , ابو طبر كان يكره زوجته مثلما المجرم صدام كان يكره ساجدة خير الله , ابو طبر كان قد قتل من يعرفهم , وصدام قد قتل الكثير من المقربين منه ومن ضمنهم ابن خاله عدنان خير الله , صدام حسين تزوج مرة ثانية من (سميرة الشابندر) وأبو طبر قد احبّ اليهودية , أبو طبر وصدام حسين كانا في نفس المدرسة الابتدائية .
القصد من ذلك , انّ المؤلف الرائع حامد المالكي اراد ايصال رسالة مفادها انّ صدام حسين هو ذاته ابو طبر , الذي أدخلَ العراق في نفق من الرعب. اتذكر في حديقة الزوراء كان هناك نفق يدعى نفق الرعب , ندخله من جانب لنخرج من الجانب الآخر لغرض التسلية وفي أعلى باب النفق كـُتِبَت كلمات شعار حزب البعث ( امة عربية واحدة ....) , التي كتبت بدون قصد , او كتبت بيد من الاغبياء , لكنها اعطت كل المعاني أنذاك , وهي شاخصة في أعلى باب النفق .
المسلسل حمل الدلالة الحقيقية لراس البعث والنظام الحاكم ( صدام حسين ) والذي هو في حقيقته أبو طبر نفسه , او انّ حاتم ( ابو طبر ) هو الظل الملازم الدائمي لصدام حسين والذي لايمكن انْ يعيش بدونه , او انّ المجرم صدام حسين هو العقل المدبر لأبي طبر , اي أنّ أبي طبر هو اداة القمع والمنفذ للجريمة , و بحكم القانون والشرائع البشرية يعتبر العقل المدبر للجريمة هو المجرم الرئيسي , وفي مثل هذه الجرائم في أغلب الاحيان تنتهي في عدم معرفة القاتل الحقيقي , اي أنّ المشاهد يخرج من دوامة تثير الصداع والالم في نفس الوقت , لانّ الطبيعة البشرية تواقة لمعرفة الحقائق بكاملها غير ناقصة , ومثل هذه التعقيدات نجدها في كل بلدان المافيات والقتل والترويع , كما كان يحصل في ايطاليا سابقا , فنجد على سبيل المثال في فيلم (العدالة المفقودة ) , بطولة الممثل العالمي الشهير فرانكو نيرو , وهو يظهر بدور المحامي المدافع عن طفل برئ سارق , وفي اثناء الدفاع عن الطفل وهو في قفص الاتهام , يقترب فرانكو نيرو من قفص الاتهام مؤشرا الى براءة الطفل وهو في حالة من الشفقة على هذا الطفل , وبسرعة البرق يخرج الطفل مدية من جيبه وهو يبكي ويغرزها في احشاء محاميه ( فرانكو نيرو ) , ويظهر وجه المحامي فاغرا فاه , من شدة ذهوله من تصرف الطفل وهو في لحظة الموت الخاطفة ,مع هول الجريمة هذه , التي نُفذتْ من قبل المافيات السرية, وهي العقل المدبر لهذه الجريمة, والطفل كان أداتها , وقد نفّذها دون معرفة السبب الذي يدعوه الى القتل , وما اكثر هذه الجرائم التي ارتكبت من قبل مافيات البعث, حتى انّ بعظهم قد قتل إبنه , فلذة كبده , لكونه هاربا من الجيش العراقي في زمن القادسية .
الحوارية المثيرة بين العميد زهير وأبي طبر , التي أبدع فيها المخرج سامي الجنادي , يتصرّف فيها ابو طبر بعقلية صدام حسين الاجرامية وكيف تخلّص من كل الذين يكرههم ,والذين وقفوا عقبة في طريقه , على سبيل المثال , تحدث أبو طبر عن سبب قتله للعميد بشير السلمان الذي كان آمرمدرسة مفوضية الشرطة 1949, والتي كان فيها أبوطبر حينذاك طالبا, و جاءه يشكوه من آمر الفصيل الذي يريد ان ينال من شرف (ضياء) صديق حاتم( أبو طبر) , ولان ضياء كان جميلا , فارادوا ان يستخدموه لاطفاء شهواتهم الجنسية , وهذه شكـّلت عقدة النفور لدى حاتم من هؤلاء , وبعد عشرين سنة استطاع أبو طبر( حاتم) أن ينال من ( العميد بشير السلمان) ويقتله كي يشفي غليله, لكن حقيقة القصة هذه ,هي قصة صدام حسين نفسه , حيث أنّ صدام حسين كان لوطي , وقد لاطهُ الكثيرون من اشقياء بغداد انذاك , وقد بقي كرههُ لهؤلاء الذين كانوا يلوطون به يسري في الشعور واللاشعور لديه, ولما اصبح قائدا , كان همهُ الشديد أن يتخلّص منهم , وتم تصفيتهم فعلا واحدا بعد الاخر , عدا شخص واحد استطاع الفرار , حتى توفي ولم يعرف بأمره , لكن حامد المالكي نقل لنا هذه الصورة بطريقة بارعة جدا تنم عن خيال متمرس وغاية في الدهاء .
ومن ضمن الحوارية الممتعة بين المجرم والشرطي( ابو طبر وزهير) يتحدث فيها أبو طبر عن ماهية الموت , وكانه يتحدث بعقلية صدام حسين والقادة الذين اذاقوا شعوبهم القتل والدمار , وعلى شاكلة موسولوليني الذي يقول ( لااحد يستطيع ان يتحدى القدر , فكل انسان يموت الميتة التي تستحقها شخصيته ).
الكاتب جعل منا أنْ نشفق ولو قليلا على المجرم ابو طبر , لأن الانظمة هي التي تخلق المجرمين , او انّ المجتمعات الفقيرة هي التي تزرع بذرة الجريمة , ولذلك كلما كانت الشعوب اكثر تحضرا , من ناحية العدل والمساواة , كلما قلّ فيها إرتكاب الجريمة والشرور , ولذلك كان ابو طبر يصور لنا بأنهُ ليس المجرم الوحيد , بل هناك الكثير من المجرمين المتسترين خلف السلطة , وهم كل يوم يقترفون الكثير من الجرائم مما تقشعر لها الابدان , وهو يبرر حجم افعاله اذا ماقيست بجرائم البعثيين , كما وانه يعتبر نفسه من المجرمين الاكثر طهارة من البعثيين , لانه يرسل ضحاياه مباشرة الى القبر وبدون عذاب, بضربة واحدة , دون ان تحس الضحية بألم وعذاب , على عكس مما كان يحصل في سجون البعثيين من تعذيب للنفس البشرية , وللجسد الذي لايمكن ان يصمد امام أبشع انواع الترويع والتعذيب , أنّ أبي طبر صور لنا نفسه من خلال الحوارية بينه وبين العميد بأنه كان تلميذا لدى صدام المجرم الاول , كما انه اعطى لنا صورة انّ عدد الذين قتلهم لايتجاوزعدد الاصابع , بينما لايمكننا ان نتوصل الى إحصائية حقيقية بضحايا البعث وصدام لو استغرقنا سنين طوال في إحصاءها .
المؤلف صوّر لنا جرائم ابو طبر بسبب الجوع , الجوع الكافر الذي أدى( بجان فالجان) , في رائعة فيكتور هيجو ( البؤساء) ان يقضي سنين عمره الكثيرة في السجون بسبب سرقة رغيف خبز. فنجد المخرج في لقطته الرائعة حينما صوّر لنا ساجدة زوجة أبي طبر وهي تقدم المائدة الى زوجها ( بصل وطماطة) , فراح ابو طبر يكفر بنعمته ويردفُ قائلا ( هذا ليس طعام , الطعام هو الواين واللحم , الحياة هي البيرة والنساء , النساء والبيرة , مثلما في المانيا ) . وهذه اللقطة الدرامية التي تختلج فيها النفس بين الحقيقة المرّة والتصرف الشائن , بين الواقع والتمردعليه , بين الحسرة والالم , وبين ان تكون مجبرا انْ تأكل بصلا وطماطة , بينما الاخرون ينعمون بما لذّ وطاب , أنه التمرد على القسمة الضيزى , والتي أدّت بأبي طبر أن يقترف أبشع أنواع الجرائم .
المجابهة الحواريّة وظفها المخرج الرائع في اداء مذهل يثير الانتباه , والتي تجعل من المشاهد ان يكون مشدودا الى الممثلين الرائعين ( خالد أحمد ـ عميد الشرطة..... كاظم القريشي ـ أبو طبر) , الحواريّة التي جعلها المؤلف درسا للحياة واعترافات وجودية , إرهاصات تؤدي بفاعلها الى العدم , إعطاء السببية النسبية لتبرير الجرائم الى البؤس والفقر , وهذا فيه نوع من الصواب , اذ انّ اكثر الشرور نجدها في الشعوب والمجتمعات الفقيرة , حيث تكثر فيها السرقات والقتل .
المؤلف جعلنا نسترجع من خلال هذه الحوارية , الكثير من جرائم الملوك والرؤساء وكبار الساسة الذين اغرقوا الشعوب بالدماء وعلى الطريقة الميكافيلية , على سبيل المثال ,الملك ريتشارد الثالث ودولته الدموية في مسرحية شكسبير , وكيف نجد فيها عنجهية ودموية الملك ريتشارد الذي كان يقتل على الظن وكثيرا مايكون الظن ملفقا , ولذلك كان يرسل عملاءه وجواسيسه , ليستدرجوا معارفه واصدقاءه ومن يشك بهم , وهذه تناولها المؤلف حامد المالكي في كيفية التخلص من( الضابط وليد) من قبل زملاءه في سلك الشرطة ودبروا له تهمة الجاسوسية , , انها دولة الرعب التي يقتل فيها السجان زميله السجان الاخر . فنرى ريتشارد عندما قتل اخيه الصغير والملقب بالامين لنزاهته قد قال (اي كلارنس , ايها الساذج الامين , ان لك في نفسي , من الحب مايحملني على ان ابعث بروحك قريبا الى السماء , الى الجنة ) . ومن ثم يقوم ريتشارد بقتل هنري السادس ويقول ( لآني رأيته اصلح للسماء منه للارض) .
ريتشارد كان يملك الحوارية والتأويلية بدهاء مفرط ..يقول له( آن) هو احد شخصيات المسرحية في احد الحوارات (ايها الملك الشرير انك لاتعرف شيئا عن شرائع الله والانسان , وما من حيوان وحش خلا قلبه من الرحمة مهما بلغت ظراوته,... فيرد عليه ريتشارد (ولكن قلبي لايعرف الرحمة مطلقا ..فانا اذن لست حيوان).
ريتشارد بحواره ايظا يقول (لأكن شريرا .. مادمت لاأصلح للحب ... ولأقبر تلك الايام ومتعتها اللذيذة بغضبي وحقدي) , بالضبط ماعمله صدام حسين بحق شعبنا , أو ظلّه أبو طبر , وهناك الكثير من الشواهد الاجرامية للملوك لتحقيق نزعتهم التآمرية و السلطوية ومنهم الملك كلوديوس حين قتل أخيه في مسرحية هاملت, وعطيل وياجو , كل هذه التراجيديات خلقت ابطالا لهم من النفس القلقة التواقة الى مرآى الدم , والتي أدت الى تغيير مجرى التأريخ ونكوصه وعرقلة مشيئته في الرقي , انّ مايجري اليوم في بلدنا هو اكثرعنفا ودموية من الوصف الشكسبيري , وسوف لن يبقى في أوطاننا غير الظلام الذي طلاها في سالف الازمان .
ابو طبر يقول الى العميد , سيأتي يوم تترحم على أبي طبر ... وفعلا جاء اليوم ونرى الاف المجرمين الذين وضعوا ابو طبر تحت ابطهم , انهم نفسهم البعثيون لاغيرهم وقد لبسوا لبوس الدين , واصبح القتل اليوم موجها من قبل السماء , اي انّ العقل المدبر هو الدين , وتأويل النصوص , وتلك الطامة الكبرى ...... لقد ابتلي العراق والعراقيون بأمثال هؤلاء السفاحين .
الممثل القدير( كاظم القريشي ..أبو طبر ) اثبت لنا بانه ذلك الممثل الدرامي الذي يحمل الكثير من الامكانيات العالية , والمصداقية الكبيرة في الاداء , انه الممثل الذي عودنا على ظهوره في الشاشة بكونه الهادئ الطباع , المحب العاشق المتفاني والمتماهي مع البساطة وترك الملذات الباذخة , او السياسي المتعب من دوامة الاعتقال, والنضال ضد الطغاة , لكنه في هذا المسلسل ظهر لنا مجرما , سفاحا , وعلى شاكلة رائعة ديستويفسكي ( مجنون سونيا ) , ذلك الشاب المثقف الذي يرتكب جريمته بحق عجوز , من اجل المال , فتؤرقه الجريمة وعقاب الضمير , حتى استسلم في النهاية واعترف بجريمته خلاصا من الارق.
هناك التفاتة مهمة جداّ , وهي أنّ الكاتب استفاد بشكل كبير من الحوارية الممتعة بين المجرم والشرطي في الفلم الامريكي ( خـَطـَر) بين الممثلين الشهيرين ( روبرت دي نيرو....آل باشينو) , ويدور الحوار حول معنى الحياة , وهل تستحق أن يعيشها المرء كعامل غسيل للصحون , وسط هذا العالم الملئ بالرأسمالية الجشعة , في حين أنّ مغامرة واحدة في عملية سطو على بنك , تدرّ الملايين , التي بدورها تصنع من المرء ملكا , بعد انْ كان خادما مهمشا في أذيال هذه الحياة الحقيرة .
وأروع ماصور لنا حامد المالكي في نهاية المسلسل , حينما قال ابو طبر اثناء أعدامه ساخرا , ( ليش ماجبتوا ساجده وياكم , أخاف اتضوج تبقة وحدهه) , وكأنه يقول لنا حسب رأيي ولستُ جازما بذلك , بما أننا بيّنا أعلاه انّ ابي طبر هو صدام حسين, فأنّ الذي يجب انْ يعدم هو صدام حسين , الذي لفظ اسم زوجته ساجدة في نهاية المسلسل وهو في طريقه الى حبل المشنقة. . كما وأنّ المؤلف أراد ايصال رسالة مفادها , أنّ المجرمين والطغاة وهم على حبل المشنقة تأخذهم العزّة في الاثم , ولم يأسفوا على ما إرتكبوا من الجرائم الشنيعة , كما حصل مع أبي طبر أو مع المجرم صدام حسين في إعدامه الحقيقي بعد المحاكمة العلنية في قضية الدجيل , علاوة على أنّ نهاية ابي طبر المجهولة وفي أحد احتمالاتها , التي تقول أنّ ابي طبر شوهد يتجوّل في شوارع اوربا , لهي أكبر إيحاء من قبل المؤلف الذي أراد أنْ يصور لنا , أنّ ابي طبر هو صدام حسين نفسه , الذي بقي يحصد في أرواح العراقيين , حاملا طبره , خمسة وثلاثين عاما .


هـاتف بشبـوش/عراق/ دنمارك



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  (حين وقفت الحرب) كنت ألعب البليارد في محل ماجد النجار في منطقتي القديمة، حي الأمانة، وكنت لاعبا قويا، ولكن مثل الحياة، حتى اللاعب القوي في...