نقلا عن موقع كتابات
- عبد الرزاق الربيعي
كنت في الحادية عشرة من عمري عندما ذاع صيت"أبو طبر" السفاح في بغداد , وهيمن شبح الخوف بيوتنا الصغيرة , ومدننا الفقيرة التي كانت تنام وتصحو على ذكرى خبر كارثي: انقلاب أو ثورة أو فيضان نهر دجلة أو مجاعة أو ... أو ... أو ....
لكن بلغتنا أخبار مطمئنة تقول أن "أبا طبر" لا يغير على بيوت الفقراء , ولا يقترب منمدنهم المصابة بهشاشة مزمنة , حيث تتدثر بالألم والوحل والأمراض , إذ يكفيهم مابهم من مصائب ونوائب , وأنه جعل مدن الأغنياء هدفا له , فحمدنا الله وشكرناه على ماابتلانا به من نعمة الفقر , ونمنا بلا خوف, ف"المفلس في القافلة أمين" كما يقول المثل وما يبحث عنه"أبوطبر" لن يجده عندنا , ولكن حين أعلن في بغداد قاطبة عن منع التجول ,وهو اليوم الأول والأخير الذي أشهده طوال حياتي لم يفرق القرار بين غني وفقير , كنا كلنا سواسية في المحنة كأسنان الخوف الذي توزع بيننا بعدالة تامة , حينها تساءلنا :مالنا و"أبوطبر" , فنحن فقراء بامتياز !؟
لكن أسئلتنا لم تجد جوابا شافيا لها , ومرّ ذلك اليوم الذي لم يسمح لنا خلاله بمغادرة بيوتنا حتى المساء!
وظل"ابو طبر" , والطبر آلة حادة تشبه الفأس, لغزا , حتى أعلن عن القاء القبض عليه وعلى عصابته المؤلفة من زوجته وشقيقيه وابن أخته وشاهدناهم من خلال شاشة التلفزيون وهم يدلون باعترافاتهم , وكان "أبوطبر" يرتدي بدلة ويتحدث بالعربية الفصحى !!
ومرت السنوات , وظهرالف "ابوطبر" حتى صار "حاتم " وهذا هو اسمه, "ملاكا" بالنسبة لهم !! ولكنه ظل لغزا محيرا , وسؤالا مفتوحا , وكابوسا يجثم فوق ذاكرة أهل بغداد , فطريقة القتل التي كان يستخدم خلاله تنفيذها كانت وحشية تشير الى قسوة الإنسان مع أخيه الإنسان , وهي قسوة أزلية بدأت مع بدء الخليقة على وجه الأرض !!!
وأنا أتابع حلقات مسلسل "أبوطبر" الذي كتبه حامد المالكي وأخرجه سامي الجنادي و أبدع الفنان كاظم القريشي في تجسيد شخصية البطل الى جانب المتألقين : حسين عجاج وناهدة الرماح وكريم عواد وأنتجته قناة البغدادية تذكرت تلك الأيام ,وكانت جرعة الرعب زائدة بحيث إنني اضطررت الى الضغط على "الريمونت كونترول" مغيرا مجرى الدم في "القناة" خلال مشاهد القتل !
كذلك حاولت تخفيض الصوت في الحوارات التي خرجت من فم "أبوطبر" لكي لا أقع بأسر الإعجاب بقوة منطقه , وهو منطق أمسك المالكي بطرف منه حين وجد مايؤكد أن " السفاح" كان متعلما , ولا أقول مثقفا, فبنى شخصيته على أساس أنه ينطلق من تفكيرعدواني يستند على أرضية فلسفية ترتبط بأسئلة الحياة والموت والفقر والغنى وما الى ذلك من قضايا شائكة ,فصار"أبوطبر" بطلا إشكاليا , وخرج من ثوب "حاتم كاظم هضم "ليرتدي ثوب البطل الذي يقتل ليختصر طريق الموت لضحاياه فتصبح الجريمة ,رغم بشاعتها وفق هذا المنطق , قتلا رحيما !!
وهو منطق يبرر للقاتل القتل , والواضح أن " المالكي"أراد أن يعطي لشخصية السفاح أبعادا درامية وصولا الى بناء شخصية البطل الإشكالي ,وبذلك ابتعد عن الشخصية الأصلية ولم يبق منها سوى خطوط باهتة تحدثت عنها الوثائق ,وقد أصاب بذلك , فنحن في النهاية لسنا أمام عمل تاريخي بل أمام حالة درامية استندت الى أحداث صنعتها شخصية واقعية ,واجتهد المالكي في تفسير تلك الأحداث , وماشاهدناه من حمولات رمزية في العمل ككل هو تفسير المالكي الشخصي لتلك الأحداث , على ضوء قراءته لمرحلة مهمة في تاريخ العراق , تلك المرحلة هي مرحلة السبعينيات التي شهدت وصول حزب البعث للسلطة وما رافق وصوله من عدم ثقة وخوف من تكرارتجربة "الحرس القومي في عام1963 م التي بدأت بمجازر وانتهت بشلال دم , فكان"أبوطبر" ابنا بارا لتلك المرحلة التي ساد بها التوجس والخوف ونتاجا طبيعيا لها , بدليل أن النهاية , رغم النهايات الأربعة, ظلت مفتوحة ف"ابوطبر" مايزال بيننا يتجول كماجاء في الجملة الأخيرة في المسلسل وسيكون مادة لمسلسل دموي آخر !
وكان من الطبيعي أن يتلقى الكاتب مضايقات وتهديدات من أشخاص رأوا أنه قرأ تلك المرحلة قراءة لا تروق لتوجهاتهم ومساعيهم في "تلميع " صورة تلك المرحلة, ولأن شخصية"أبوطبر" اشكالية ليس من المستبعد أن يطلع كاتب آخر بقراءة أخرى مختلفة لهذه الشخصية .
والله صفقت عندما قرائتها لازلت مؤمن يوجد الكثر من المثقفين ....
ردحذف