نقلا عن جريدة الاتحاد البغدادية
سعد عزيز عبدالصاحب
علقت والدتي ونحن نتابع المسلسل الدرامي (ابو طبر) بانها كانت حاملاً بي وتضع قناني الغاز الثقيلة خلف الباب الرئيس لمنزلنا، مخافة مجيء (ابو طبر) في اية ساعة، ما عرضها لاكثر من مرة لحالات نزف وتهديد الاجهاض !!
في الحقيقة التي جرت ذاكرة والدتي المتعبة الى تاريخ يزيد عن الثلاثين عاما، هي صدقية الاجواء والبيئة الواقعية للمسلسل وانعكاس حقبة السبعينات على الامكنة والاشكال وايقاع الحياة.. فالدراما حياة ايضا .. ما ميز هذا العمل الفني عن غيره في انه قدم لنا الحقيقة الموضوعية بجوانبها وحيثياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومنذ تلك الفكرة الموهومة عن دعة الحياة وامانها واستقرارها المزعوم في فترة السبعينات، والتي تطرحها بعض الاصوات لتزكية حقبة البعث الثانية وتسلمها مقاليد السلطة (1968 ـ 2003). وحقيقة الامر ان الكاتب حامد المالكي تلقف بذكاء لعبة الصراع السياسي والتدافع الحزبي بين اقطاب السلطة البعثية (بين النائب ووزير الداخلية بين وزير الدفاع ورئيس الجمهورية)!! واخذ ينسج خيوط مسلسله الدرامي وكانه يريد القول بان اية ازمة اقتصادية او اجتماعية او امنية كانت في ذلك الزمن هي من اختلاق السلطة الحاكمة لخنق ووأد اي صوت يساري جماهيري نابه معارض او اي تجمع يقع خارج لحظات الخوف والريبة والقلق المزمن الذي خلق واصطنع بشخصية (ابو طبر) او الحنطة المسمومة او (عدنان القيسي) او (الجواسيس اليهود) او المقولة المتقشفة (شد الحزام على البطون)..
وغيرها من القصص التي كانت السلطة تتفنن في اخراجها وتسويقها كي تضع الناس بالانذار الدائم بازمات مفتعلة غلفت تلك الفترة لتعكس الرؤية الدونية والوضيعة للشعب من قبل السلطة، وان هؤلاء الحكام لم يجيئوا عن استحقاق ديمقراطي وانما دخلوا الابواب وتسوروا الحيطان ليلا كأبي طبر..!!
لست هنا بصدد اطروحة سياسية او تشفير رمزي وانما مع اعادة انتاج التواريخ القريبة من تاريخ العراق الحديث بقراءة درامية متوازنة وموضوعية لا تدخل في خانة الاصطفاف والتخندق الذي نشهده في اغلب الاعمال التلفازية في الفضائيات التي تحاول ان تعكس الجدل السياسي والصراعات الضيقة والتدافعات من القاعات الحكومية والحزبية الى الشاشة الصغيرة!!
في الحقيقة يبدو اننا بحاجة فنيا الى الخبرات العربية والاقليمية في مجالي الاخراج والتقنيات التلفازية.. لاننا بعيدون كل البعد عن النسق المتسارع الذي تعيشه الدراما في المنطقة وهذا يبدو جليا من خلال الاخراج الواعي للمخرج السوري (سامي خباري) لمسلسل ابو طبر، حيث حركة الكاميرا المدروسة والبيئات الموضوعية والمحكمة بالدقة التاريخية لفترة السبعينات، واعطاء الجو البوليسي والنفسي الغامض والمعقد، ودقة الوجوه ونحتها الضوئي لاسيما في عكس الجو الليلي باللونين الازرق والرمادي والظل والضوء، والقدرة الفنية على اضاءة المشاهد الخارجية ومراعاة عمق المجال ووظيفته الجمالية والفلسفية، كلها عوامل اتت بها الاستعانة بالكوادر التقنية السورية المدربة على اعمال فنية كبيرة انتاجيا ما اتاح لها قدرة التجريب والتركيب المقتدر على صعيد الصورة الدرامية..
شدتني ايضا الاداءات التمثيلية لممثلينا الشباب الذين سبروا اغوار تلك الحقبة التاريخية وتماهوا معها، خالعين معاطف الكليشية والتقليد الاعمى والاداء الميت.. ويبدو ان المقام والعمل الطويل في سوريا ووفرة الاعمال الفنية هناك اسهم في تطوير عمل ممثلينا مع الشخصيات التي يتلبسونها ولاسيما(حسين عجاج وحسن هادي وميثم صالح وتمارا جمال وسعد محسن وذو الفقار وعلي منشد واسعد مشاي وزهور علاء وشمم الحسن وغيرهم).
العافية التي خرجنا بها من هذا العمل الدرامي هو انشداد المتلقي لهكذا نوع من الاعمال التي تعكس حقبا تاريخية قريبة من تاريخه الاجتماعي والسياسي برؤية تضعه على المحك مع الظروف الموضوعية التي شكلت تلك الفترة واسباب التدهور اللاحق في البنية القيمية للمجتمع العراقي التي تشكلت بفعل تغذية السلطات الحاكمة لمواطنيها بلغة الخوف والقمع والاذلال وتواريخ الازمات والاحباطات والانكسارات..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق